تحت سقف واحد

00:39 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السويجي

لأول مرة في تاريخ البشرية، يجتمع الناس جميعاً في بيت واحد، يتوزّعون في غرفه وصالوناته وشرفاته وحديقته ومكتبته، يتحدّثون مع بعضهم البعض في جميع المحاور والمضامين والأفكار والأشكال التعبيرية والسياسة والقانون والعلوم، وقد تحوّلوا جميعاً إلى نجوم، لديهم معجبون ومريدون ومتابعون وداعمون، مع اختلاف درجة النجومية تبعاً لاختلاف عدد المتابعين والأصدقاء.

 لأول مرة في التاريخ، تتخلّص البشرية من الرقيب السياسي والأخلاقي والأدبي والفني والأسري، ولأول مرة يكون الإنسان هو رقيب نفسه، يقرّر ما ينشر وما يقول في التوقيت الذي يناسبه، وباللغة التي يختارها، وبالحجم الذي يريد، مساحةً وزمناً. 

 لأول مرة في التاريخ يمارس الإنسان الحرية، فيجعلها مطلقة أو مقيّدة، يتحكّم بمستوى انفعالاته ولسانه ومشاعره، ويطلق لنفسه العنان فيقدّم نفسه بعلمها وأدبها وأخلاقياتها وسلوكها وحضارتها، ويعتقد اعتقاداً كاملاً أنه أعاد الاعتبار لذاته. وهكذا رأينا العالم والأديب والفنان والناقد والسياسي والواعظ والمصلح الاجتماعي والسارق والمتطرّف والوسطي والملحد واللاأخلاقي من الجنسين، جميعهم في مكان واحد.

 لأول مرة تكشف وسيلة من اختراع الإنسان جوهره ومستواه وقيمه، هذه الوسيلة هي وسائل التواصل الاجتماعي، منصات إلكترونية هائلة تتسع لمليارات البشر، وهنالك متسع للجميع، فلا أزمة مساحات ولا أمكنة، يجلس الإنسان براحته التي يختارها، وبالتوقيت الذي يختاره، ليدلق ما في جعبته، وهو يعلم أن العالم كله يشاهده ويحكم عليه وينتقده، سراً أو علانيةً، لكنه لا يدير بالاً لأحد، وإن لم يعجبه يستل كل أسلحة اللغة ليستخدمها ويدافع عن نفسه، من دون أي مقاطعة من أحد. كمذيع ينطلق على الهواء مباشرة فيقول ما يريد ثم يقفل البث ويرتاح.

 يمكننا القول بالمجمل إن البشرية «فضحت» نفسها بنفسها، وكشفت أسرارها، الكل يعرفون عن الكل كل شيء، والجميع يراقبون الجميع بسرعة وسهولة بالغتين. فلا غرابة أن تستغل أجهزة الاستخبارات هذه الوسائل لتسهيل عملها، وأن تستخدمها شركات التسويق استخداماً كبيراً، رغم معرفة الناس بوجود طرف ثالث يقاسم أي طرفين المعلومة والصورة والخبر والسر، وهذا لم يلجم الناس ولم يمنعهم من ممارسة التواصل الحر، بل إن البعض يتمادى كأن لا رقيب ولا حسيب في هذا الفضاء. وهذا الاعتقاد خاطئ تماماً، هنالك من يراقب ويحلّل ويستنتج ويجمع البيانات، وهناك من لديه حواسيب تقرأ ثلاثين ألف رسالة في الدقيقة الواحدة.

 لا أدري إن كانت هناك مؤسسات تقوم بدراسات نفسية تستخلص بواسطتها ميول الناس وتراكيب شخصياتهم، لكنني أعتقد أنها الفرصة المناسبة لإجراء دراسات نفسية اجتماعية تربوية، إذ يتصرّف الإنسان كأنه جائع للحرية، ويتوق للفوضى وتكسير القوانين وانتهاك خصوصية الآخرين، يتصرف بتلقائية أظهرت مرضه في الظهور حتى كأنه يعاني من مرض العظمة. وكأن كل القوانين والمناهج التربوية والنفسية فشلت في ترويضه، وكأن كل الجهود في التنمية البشرية باءت بالفشل.

 أعلم أن هذا الفضاء الإلكتروني متعدّد، ويمكن استخدامه بالطريقة التي نريد، لكن هذا الفضاء أيضاً كشف عن عيوب الأفراد والمجتمعات، ومستوياتهم التعليمية والأخلاقية والتربوية، ولن أسمّي المنصات التي لم يردعها شهر رمضان المبارك، فنشرت الغسيل القذر لشرائح معينة، ولم تحذف شيئاً.

 إذا أراد باحث التعرف على تحضّر الناس، فليقذف بمقولة تعاكسهم أو تمسّهم، وفوراً سيتعرض للغة سوقية غير مسبوقة، وقد تنشب حرب أهلية إلكترونية، أو فليراقب التحديات على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، ليرى مستويات الانحلال الخلقي لدى شريحة من المراهقين.

 قد يقول قائل، إن هذا الواقع موجود قبل هذه الوسائل الإلكترونية، ونقول إنه كان موجوداً، لكن الناس كانوا يستترون وقت البلاء، أما الآن فلا يستترون، كلٌ يبوح بكل جرأة بمحتواه من دون إحراج أو حياء، وهذا أوجد مصطلحات عجيبة تلتف حول الحالة ولا تصفها.

 لن نطالب بتدخل أصحاب المنصات، إنما نتمنى على الباحثين السوسيولوجيين القيام ببحوث في هذا الشأن، لترصد الانفجار الاجتماعي العظيم الذي يحدث منذ عقدين من الزمان، والحديث ذو شجون..

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4hbfb2rn

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"