عادي
«فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ»

صاحب القلب السليم

23:32 مساء
قراءة 3 دقائق
1

د. سالم الشويهي

إن من أبرز صفات إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي ذكرها القرآن أنه كان سليم القلب كما قال الله تعالى عنه:«إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

وسئل الإمام مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ مَا الْقَلْبُ السَّلِيمُ؟ فَقَالَ: النَّاصِحُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي خَلْقِهِ.

وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: «إن أَبِي يَقُولُ لَنَا: يَا بَنِيَّ لَا تَكُونُوا لَعَّانِينَ، أَلَمْ تَرَوْا إِلَى إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَلْعَنْ شَيْئًا قَطُّ»، هكذا كان قلبُ إبراهيم الخليل، عليه السلام، قلبٌ يفيض حبّاً ورحمةً وخيراً، ومن رحمته أنه لم يدعُ على قومه، بل أشفق عليهم من العذاب، وفوض الأمر فيهم إلى الله تعالى، فقال:«فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». وفي ذلك دلالة على حلمه عليه السلام ورقة قلبه وشفقته على العصاة من الوقوع في العذاب الأليم. وهكذا كان قلب نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، فقد شابه أباه إبراهيم، خَلْقاً وخُلُقاً.. وَمَنْ يُشَابِهْ أَبَاهُ فمَا ظَلَمْ، فما دعا على قومه بهلاك، بل كاد أن يهلكه الإشفاق عليهم، فقال الله تعالى له:«لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ». ولما قيل: يا رسول الله، ادع على المشركين، قال:«إني لم أُبْعث لعّاناً وإنما بُعِثْتُ رحمةً».

كَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أشبه النّاس بإبراهيم في صفاته الظاهرة والباطنة، قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «رَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ فَإِذَا أَقْرَبُ النَّاس شَبَهًا بِهِ صَاحِبُكُمْ» يَعْنِي نَفْسَهُ.

وهكذا مشابهةُ الأخيار بالأخيارَ في القلوب والأحوال والأفعال، وجميل الخصال.. فَتَشَبّهوا إِن لَم تَكُونوا مِثلَهُم إِنَّ التَّشَبّه بِالكِرامِ فَلاحُ.

ومن سعة رحمة أرحم الراحمين؛ وعظيم كرمه وجزيل إحسانه لعباده المؤمنين؛ أن جعل من مات من أطفالهم في كفالة النبي الرحيم إبراهيم الخليل وزوجه سارة، عليهما السلام. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْلَادُ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَبَلٍ فِي الْجَنَّةِ يَكْفُلُهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَسَارَةُ حَتَّى يَدْفَعُوهُمْ إِلَى آبَائِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

وقد رَآهُ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْجَنَّةِ، عَلَى رَوْضَةٍ مُعْشِبَةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ نُورِ الرَّبِيعِ، وحَوْلَهُ كُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، ورأى غلماناً يلعبون بين نهرين، فقيل له: هؤلاء ذراري المؤمنين». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ».

وكونهم يلعبون هناك فمناسب لطفولتهم، وهو من آثار رحمة الله بالصغار؛ لأنهم يعيشون حياتهم الطبيعية التي تتميز باللهو واللعب والمرح غير المحدود حتى يلتقوا بآبائهم يوم القيامة!

ومن مناقب الخليل العظيمة أنه قام بجميع ما أمره الله به كما قال تعالى:«وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى».

قال اِبْن عَبَّاس:«مَا اُبْتُلِيَ بِهَذَا الدِّين أَحَد فَقَامَ بِهِ كُلّه إِلَّا إِبْرَاهِيم». قَالَ اللَّه تَعَالَى:«وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا». ولمّا أتمّ ما أمر من الكلمات، وأخلص قلبه للرحمن استحق أن يلقّب بخليل الرحمن وجَعَلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا للخلائق يأتمّون به لذا قال تعالى:«وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ».

وجعل الله بفضله كل الأنبياء بعده من ذريته كما قال تعالى:«وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ». أَيْ: جَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا الْمَوْصُولَةِ بِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَكَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا الذرية الطيبة وَالثَّنَاءُ الْجَمِيلُ، فَكُلُّ أَحَدٍ يُحِبُّهُ وَيَتَوَلَّاهُ، فهناك إجماع عالمي عليه كما قال تعالى:«وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ» أَيْ: تَرَكَنَا لَهُ فِي الْآخَرِينَ ثَنَاءً حَسَنًا، فجميع أهل الملل متّفقة على تعظيمه ومحبّته فكل أمة تدعيه وتنتسب إليه، ولذا قال تعالى مفنداً انتسابهم إليه:«مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

وفي هذا أهمية استشعار عمق جذور هذه الدعوة وبعدها التاريخي الطويل، ولذا يردد المسلم هذا المعنى في صلواته الخمس، من خلال الصلاة الإبراهيمية ولا تصح صلاتنا إلا بذلك تأكيداً على الصلة القوية وتنمية روح الارتباط بإمام الحنفاء؛ فيفخر المسلم بأنه حلقة في هذه السلسلة المباركة؛

وهذا من خلود الذكر والاعتراف بالفضل لخليل الرحمن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

 [email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdd9n8s2

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"