عادي

الفلسفة تستفز العقل

19:55 مساء
قراءة 3 دقائق

القاهرة: «الخليج»

يكمن كثير من مشكلاتنا الراهنة في فكرة امتلاك الحقيقة، فالكل يزعم أنه قد امتلك ناصية الحقيقة، قليلون من يعترفون بأنهم لا يعرفون شيئاً، وهم من يعرفون كل شيء، تماماًَ مثل سقراط الذي قال: «إنني أعرف شيئاً واحداً هو أنني لا أعرف شيئاً».

هناك إجابات جاهزة تترسخ في وعي الأطفال والشباب على أنها حقائق أزلية، لا يجوز الخروج عنها، أو عليها، وعندما يكبر الصغار يصطدمون بالواقع، ويعانون خبراتهم الحياتية والمعيشية، ثم يكتشفون أن هناك خطأ ما، لكنهم لا يعرفون ما هو، لأنه يضرب بجذوره في عقولهم وأرواحهم.

تمارس المناهج الدراسية نفس القدر من السلطة، فهي تخبرنا بحقائق جاهزة وراسخة، لا سبيل إلى الشك فيها، وترسخ تلك المناهج جموداً معرفياً، ولا تقدم سوى محض معلومات، على الطالب أن يحفظها فقط، ثم يسترجعها وقت الحاجة، ليموت الإبداع وتتحول عقول الطلاب إلى مسوخ معرفية باهتة، لما ظن أنها حقائق لا تقبل الشك، وينشأ الطلاب على نزعة الأنا واحدية، الأنا فقط موجود بما يمتلكه من معلومات، وتغيب الروح الفلسفية النقدية، وتغيب صيرورة التفكير العلمي التراكمي، ويصبح التطور حلماً مثالياً مستحيلاً.

في كتاب «استفزازات فلسفية.. الفلسفة للمدارس الثانوية» يؤكد مؤلفه ديفيد بيرش أنه في الفلسفة لا يوجد خبير فلسفي، ولا يوجد شخص أذكى من آخر، الفلسفة هي حوار، واستكشاف وتجريب بالأفكار، الفلسفة بشكل عام هي الجهد المبذول لتحقيق أكبر قدر من الفهم للموضوع الذي يخضع للنقاش، أيا كان هذا الموضوع، وكل إنسان لديه الحق في أن يعبر عن وجهة نظره، والقواعد الوحيدة المتبعة هي فقط: أنه إذا أراد الإنسان أن يفكر بوضوح وبصدق فعليه أن يستمع لوجهات النظر الأخرى، وأن يتبع بشجاعة الطريق الذي تقود إليه الحجج الأفضل.

إن الممارسات الجدلية في هذا الكتاب – التي يسميها المؤلف استفزازات – قد تم تصميمها لتحفيز التأمل، ولتوليد المزيد من النقاش، وهي بالفعل تقوم بالأمرين على أكمل وجه، والمبادئ التي تكمن خلف ذلك، التي قررها بيرش هي مبادئ ممتازة بالفعل، فقد لاحظ أن التعليم لا يجب أن يتم عن طريق إلقاء المعرفة من فوق، كما يفعل صاحب مهنة معينة كالمحامي عندما يتعامل مع موكله، أو الطبيب مع المريض الذي يعالجه، فبدل ذلك يجب أن يكون التعليم استجابة لحيرة الطالب، واهتماماته، ورغبته في التعلم، ويتم تحفيز هذه الأشياء بالإلهام والاستماع، خاصة الاستماع إلى الطلاب حين يقومون بتقديم إجاباتهم الخاصة على التساؤلات المطروحة عليهم من العالم.

يشير الكتاب إلى أن وجهة النظر الشائعة والمعمول بها تقليدياً تقول: إن التعليم يتم عن طريق نقل المعرفة والمهارات من المعلم إلى الطلاب، وتلك هي الحالة بالفعل للحد الأدنى لما هو متضمن في التعليم داخل المدارس، وتتمثل تلك الحالة في تقديم المعلومات الأساسية وسبل التعاون معها، وهذا أمر لابد من غرسه قبل أن يصبح الطلاب أكثر استقلالية كذوات مفكرة.

إن الفلسفة هي بلا منازع مغامرة للانفتاح والاستكشاف، وهي أيضاً التسليم بأن المسلمات واليقينيات هي أمور يصعب التسليم بها، وستظل التعقيدات باقية حتى بعد الكثير من الجدل، الفلسفة تعلم الدرس الأهم، وهو أن هذا الانفتاح نحو اللايقين ونحو عدم الاكتمال يمكن أن يكون مثمراً بشكل لا يتوقعه أحد.

هذا الكتاب هو استفزاز رائع نحو الفلسفة، فالممارسات الجدلية تدعونا للفلسفة، أن نفكر بشكل فلسفي، وأن نقوم بتوليد الأفكار ونختبرها، تتحدانا لنضفي معنى لما هو على المحك وفهماً لما هو أعمق، ولابد لهذا الكتاب أن يكون في كل فصل دراسي، وفي يد كل معلم، فهذا الكتاب سوف يوجه اهتمامات الطلاب وطاقاتهم، ليس فقط لما يخص دراستهم، لكن لما يخص حيواتهم أيضاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ycym2ftk

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"