المفاصل الاقتصادية

21:41 مساء
قراءة 3 دقائق

د. عبدالعظيم حنفي *

تتحدث دراسات اقتصادية أمريكية عن عملية التحكيم وترى أنها لا تختلف في الاقتصاد (أو في أي علم آخر) عما هي عليه في الرياضة، وإن كانت آدابها أكثر رقّة. ففي الاقتصاد لا يرتدى الحكام قمصاناً مقلّمة، وعادة يقومون بعملهم وهم جالسون، كما أن هؤلاء الحكام لا يعتبرون أن وظيفة التحكيم هي وظيفة دائمة طوال الوقت وذلك في معظم الأحيان. والفرق الجوهري هو أن ممارسة التحكيم العلمي تتم دون ذكر الأسماء. ويقول مؤرخ العلوم «جون زيمان» في هذا السياق إن «الحقيقة الرئيسية التي تدل على أن الكاتب قد حصل على درجة الدكتوراه - أو أنه أستاذ مميز- لا تعنى أنه قد تحرر من أي نوع من التحيز، نتيجة للحماقة أو الخطأ أو حتى نتيجة لكونه مجنوناً بدرجة خفيفة». ويعتمد الكتاب الصحفيون على النصائح المقدمة لهم من قبل الأصدقاء الخبراء لقراءة التقديم وللتوصية بقبولهم أو برفضهم. وتصل الدراسة التي يفترض أن تجرى مراجعتها إلى صندوق بريد الحكم دون أن يدون عليها اسم أو أي صلة. وتصل التوصية ويتم تفسيرها ومن ثم إعادتها، أيضاً دون ذكر أسماء. وقد يتعرف الحكام، بالطبع، على الطابع البريدي الخاص بأماكن عمل زملائهم، مثلما يعرف الكتاب في معظم الأحيان هوية حكامهم. وتلك هي طبيعة المجتمعات الافتراضية للخبراء المنتشرين في جميع أنحاء العالم والذين يقومون بعمل أحدث الأبحاث العلمية - والذين أطلق عليهم السير «روبرت بويل» لقب «الزملاء المختفون». منذ 350 عاماً مضت – وهي الحالة التي يعرف فيها أي فرد في نظام فرعى جميع الأفراد الآخرين. ولكن تستمر المحافظة على واجهة التباعد، ويقوم الكاتب بالقبول أو بالرفض - وهو يأمل ألا يتم نقد الدراسة المنشورة، أو تجاهلها في أسوأ الأحوال.

تلك إذن هي الآلية التي تضمن أن الأبحاث المنشورة تتماشى مع معايير المجتمعات الخاصة بالمعقولية والنزاهة، وتسمح للاقتصاديين بالتلفظ بأكثر الكلمات غرابة وقوة مقارنة بجميع العلوم الأخرى. وهناك ملاحظة جديرة بالاهتمام، وهو أن المال ليس له مكان في نظام التحكيم، ومع ذلك فإن معظم الاقتصاديين ذوى الشأن يمضون قدراً كبيراً من وقتهم في التحكيم. ويقوم المحررون الصحفيون بتكوين شبكة من الباحثين ذوى السمعة الطيبة من ناحية أنهم الأذكى والأكثر نزاهة في مجالات عملهم، حيث يوافق هؤلاء الحكام على قراءة كل جديد يقدم إليهم كما أنهم يقدمون توصيات لمصلحة أو ضد نشر الدراسات المقدمة إليهم.

وعادة ما يقترح المحكّمون بعض التغيير - أو يصرّون عليه. ويحكم المحرّرون على الحكام من خلال الوقت الذي يمضونه للوصول إلى توصية، إضافة إلى درجة ارتباطاتهم البناءة مع المؤلفين وحكمتهم. ويعزز السلوك الطيب للحكام أنهم أيضاً علماء في المقام الأول، كما أن أبحاثهم ستعرض على حكام آخرين. ويتطلب إثبات أن الاقتصاد مثله مثل جميع العلوم الأخرى، علم مستقل تماماً عن الثروة أو الجاه أو العلاقات التي تحدت كثيراً من الألم. وكثيراً ما لا تكلل جهود الإثبات بالنجاح. حيث يتم عمل عدد غير قليل من الصفقات التي تعتمد على التملق وتبادل المنفعة، ومع ذلك فإن الجدارة في اختيار النظراء وهو العمل الذي يقوم به الاقتصاديون المحترفون يقف على طرف متناقض تماماً للنظام الاجتماعي للتجارة والصناعة، حيث يكون ترتيب الطبقات من الأعلى للأسفل هو القاعدة والحصول على الأموال هو المحرك الرئيسي.

ربما يعد التحكيم في حقيقة الأمر، هو الطريقة الوحيدة والفعالة التي يمكن الاعتماد عليها لإثبات أن إحدى الشخصيات تتمتع بدرجة عالية من الشعور بالمواطنة، كما يمكن الاعتماد عليه أيضاً لتقييم الشخصية، ويتم اختيار المحررين الصحفيين من بين الأفراد الذين حققوا نجاحاً في عملهم كمحكّمين. وهذا الوضع مماثل لوضع المسؤولين في الجمعيات المهنية، مثل الجمعية الاقتصادية الأمريكية، ولم يثبت عدم الأمانة والشرف إلا على عدد قليل جداً من الحكام، والذين قد يضغطون على المتقدمين بالمقالات عن طريق الإدلاء باستشهاد خاطئ حول الأعمال التي قد تقدموا بها، أو قد يتورطون في محاولة الاستباق محاولين دمج الأفكار الجديدة التي استقوها من المقالات التي كان من المفترض أن يقوموا بمراجعتها في مقالاتهم الخاصة. ولكن يستطيع أفضل الحكام أن يتعرف على الأفكار التي تستحق أن تسمع. وفي حقيقة الأمر، فإن أكثر نواحي الفشل تتمثل في الميل نحو وضع ثقل كبير للآراء المتلقاة. ويتم رفض معظم المساهمات الإبداعية عدة مرات - ليس كثيراً منها، ولكن معظمها – حتى تقبل في النهاية وتجد ملاذاً يؤويها.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mr4d42f5

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"