عبء اللوم

00:28 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

هل تتذكر المرة الأولى التي تعرضت فيها للوم من أحد نتيجة لفعل ما؟ كم كنت تبلغ من العمر وقتها؟.. و هل أحمّر وجهك خجلاً، أم تنمرت على من يلومك؟ هل أنكرت فعلتك ومارست الكذب لكي تنجو من العقاب، أم اعترفت بغض النظر عن النتائج، أم قدمت لائحة من التبريرات التي تُخلي من خلالها مسؤوليتك وتُبرئ ساحتك، وإلى أي مدى كانت تبريراتك قوية؟ هل امتلكت شجاعة أن تعتذر أم وعدت بعدم تكرار الخطأ؟ وإلى أي مدى التزمت بوعدك؟.

  يحيطنا اللوم من جهاتنا كافة، ولا نهاية لأسئلته المحرجة والكاشفة.. يرافقنا في مراحل حياتنا المختلفة، ويحتل فضاءً واسعاً لا يبدأ بلوم النفس ولا يتوقف عند ثقافات لا تجد عزاءها الخاص وراحتها النفسية وسلامها الداخلي إلا من خلال اللوم، ثقافات مفتونة بسؤال «أين الخطأ؟»،

  اللوم مطهر لأخطائنا، والتي نلقي بها غالباً على عاتق الظروف.. المجتمع، هو غالباً رحلة بحث عن براءة الذات، وتخفُف من الأثقال، أو تهرباً منها أو تبرؤاً..لا فارق لدى اللائم، وهو إدانة الآخر في الوقت نفسه. 

  اللوم أداة للضبط النفسي، هو فرصة الذات للتخفف من مشاكلها، لقد فشلت بسبب كذا وكذا، لقد كانت الظروف أقوى مني، لم يحالفني الحظ..القدر يعاندني..الجميع تحالفوا ضدي.. المناخ لم يكن مواتياً، في هذه الحالات تبحث الذات عن ألف مشجب ومشجب لكي تحصل على البراءة أمام نفسها، ولكنها ستستمر في تكرار أخطائها في الوقت نفسه، والتبرير جاهز والمشجب في متناول اليد. 

  اللوم يختزن بداخله علاقة سلطوية ما، يعقبها اعتذار.. تعويض.. عقاب، حتى عندما يلوم الإنسان نفسه فهو يتخفي وراء سلطة ما، وذلك بعكس العتاب الذي يؤشر إلى علاقة بين ندين: صديقين أو حبيبين..

   في كتابه «صناعة اللوم» يضعنا المفكر البريطاني ستيفن فايمن أمام وجهتي نظر في ما يتعلق بالاعتذار المقدم في أعقاب اللوم، هناك من يؤمن بضرورة الاعتذار عن الخطأ المعاصر، وهناك من ينادي بأهمية أن نعتذر عن خطايا التاريخ، وهو جدل دار في ألمانيا في أعقاب الاعتذارات المتكررة لليهود، فما ذنب الجيل الحالي ليعتذر عن جرائم جيل سابق؟

  يفجر الطرح السابق إشكالية بائسة لم يطرحها فايمن أو يشير إليها، وهي: هل يمكن الاعتذار عن التاريخ؟ توقف فايمن عند الاعتذار عن خطايا تعود إلى ممارسات الرجل الأبيض في إفريقيا مع بداية الاستعمار الحديث، ولكن ماذا عن الماضي الأبعد والأبعد؟ هنا سنقع في فوضى، فالجميع عرضة للوم الجميع، والجميع عليهم الاعتذار من الجميع، فتاريخ الإنسان مسلسل من العنف والقتل والاستعباد وسوء الفهم والصور الذهنية المغلوطة، مسلسل يستدعي اللوم ومن ثم الاعتذار.

إذا لمنا التاريخ فربما ندخل في جدل لم نعرفه في ما قبل، فلكل جماعة وطائفة وشعب وأمة ودين.. لكل من هؤلاء خطاياه، ولكل منهم لومه، وللجميع ضحاياهم، وكل منهم ينتظر اعتذارات يقدمها الآخرون له.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3h4at2ph

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"