رؤيتان للماضي

00:53 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

يكتب المفكر النهضوي أحمد أمين في مقدمة كتابه «قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية» الصادر في عام 1953: «في نحو سنة 1938 طُلب مني أن أكتب سلسلة مقالات في مجلة الإذاعة، فاحترت في اختيار موضوع تتعاقب مقالاته. وبعد ذلك هداني تفكيري إلى أن أكتب سلسلة مقالات في العادات والتقاليد المصرية بعنوان «دائرة المعارف المصرية»، أرتبها حسب حروف الهجاء، فبدأت بحرف الألف، وبدأت من حرف الألف بالإبرة أذكر على الأخص عقائد المصريين فيها، والأمثال التي قيلت فيها، واستمررت على ذلك نحو أربع عشرة مقالة، ولم ينته حرف الألف، ثم شاء القدر أن أُختار عميداً لكلية الآداب سنة 1939 فنصحني بعضهم ألا أستمر في هذه المقالات، لأنها تتنافى مع جلال العمادة، مع أنها كانت في اعتقادي أجلّ من عميد».

 في زمن آخر يقصي مفكر بوزن محمد عابد الجابري، فضاء الثقافة الشعبية بأكمله عندما يتحدث عن رؤيته المنهجية لمشروعه «نقد العقل العربي»: يقول: «ولا بدّ من الإشارة أخيراً إلى أننا قد اخترنا التعامل مع الثقافة «العالمة» وحدها، فتركنا جانباً الثقافة الشعبية من أمثال وقصص وخرافات وأساطير وغيرها».

 المثقف الأول، النهضوي، يعتبر الكتابة عن التقاليد والعادات والأمثال الشعبية أهم من عمادة كلية الآداب، والمثقف الثاني يشطب التراث الشعبي كاملاً من فضاء العقل، واختلاف حقل الدراسة بين الكتابين ليس مبرراً لناقد العقل لاعتبار التراث الشعبي لا عقلانياً، ولكنها الرؤية والتوجه. ففي موسوعة أحمد أمين: «فجر وضحى وظهر الإسلام»، احتفاء بالغ بكل ما يمت لحياة البشر بصلة، الأدب، التراث الشعبي، الثقافة الشعبية، الغناء والموسيقى. ومن المعلوم أن أمين قدم لموسوعته بوصفها تؤرخ للحياة العقلية في الإسلام، ولكنها الرؤية النخبوية التي حكمت الجابري وجيله، وأدت إلى تحول المنوّر إلى باحث، والمثقف إلى منظر، والكاتب إلى أكاديمي، يكتب بلغة معقدة، ويفكر من داخل فضاء النخبة، منطلقاً من النخبة لينتهي إلى النخبة.

 نحن أمام نوعين من المثقفين، أو أمام رؤيتين على وجه الدقة، الأولى ابنة حياة من الطراز الرفيع، يمكن البناء عليها، والاستفادة منها لتحقيق أكثر من هدف، يأتي على رأسها تقريب التراث من أجيال التكنولوجيا الحديثة التي لا تعرف عنه شيئاً، والثاني تغيير الصورة النمطية عن ماضينا ذلك الذي يدركه البعض على أساس أنه لم يكن أكثر من جدل فكري حول قضايا كبرى، أو بشر لا همّ لهم إلا التحليل والتحريم، أو أن هذا الماضي كان مأساة لا تنقطع، كما عبّر نزار قباني يوماً.

 تقول لنا رؤية أحمد أمين، أو رؤية جيل النهضة بصفة عامة، أنه هذه البقعة من العالم لم تكن متجهمة يوماً ما، ولم يكن إنسانها عابساً أو كئيباً على الدوام، كان لدينا موسيقى وغناء وخيال الظل، وشعراء ينشدون في المقاهي، وقصص لبشر يتعاملون في الأسواق، ويرتادون الحدائق، ويذهبون إلى الحمامات العامة، يضحكون ويسمرون ويحلمون بالأفضل ويعيشون مثل جميع البشر في أنحاء العالم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/d7h42mac

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"