ملحمة العبور

00:31 صباحا
قراءة دقيقتين
افتتاحية الخليج

في مثل هذا اليوم وقبل خمسين عاماً، سجّل الجندي العربي أول انتصار عسكري حاسم في تاريخ العرب الحديث. انتصار لم يكن ينتظره أحد. فاجأ العالم ووضعه أمام حقيقة أن العرب يستطيعون تحقيق المعجزات طالما توفرت لديهم الإرادة والعزيمة والقرار.

في ظهيرة ذلك اليوم انطلق الرجال يعبرون القناة وسط عواصف النار والدخان، وتمكنوا من تحطيم خط بارليف «الأسطوري» على الضفة الشرقية، ورفعوا العلم المصري وهم يهتفون «الله أكبر»، وفي نفس اللحظة كان الرجال على الجبهة الأخرى يعبرون خطوط النار والألغام على مرتفعات الجولان السورية وصولاً إلى مدينة القنيطرة ومرصد جبل الشيخ.

ومع تقدم الساعات كان الجنود على الجبهتين يتقدمون بثبات واقتدار. وفيما اخترق الجيش المصري حصون وتحصينات الجيش الإسرائيلي الذي كان يوصف بأنه «لا يقهر» لمسافة ما بين عشرين وثلاثين كيلومتراً شرقاً، كان الجيش السوري يتقدم باتجاه ضفاف بحيرة طبريا.

كان الجندي العربي يومها يكتب تاريخاً جديداً ومجيداً لأمته ويثأر لهزيمة لحقت بها عام 1967 ليستعيد أرضاً تم احتلالها بالغدر والتآمر، وفرض أمر واقع على الضد من الحقيقة والتاريخ والمنطق.

كانت المهمة صعبة وثقيلة والتضحيات جسيمة. فالمعركة كانت واحدة من أصعب المعارك في التاريخ الحديث، لأنها تمت في وضح النهار، فيما كان كل العالم يرى أن العرب لن تقوم لهم قائمة، وأن ما حصل قد حصل وانتهى الأمر.

والمعركة صعبة، لأنها جرت على أرض صعبة المسالك، وفي أولها مانع مائي كبير يجب عبوره وصولاً إلى مواقع العدو، ولأن التحصينات على الجانب الآخر بلغت حدوداً من القوة والمنعة تجاوزت تلك التي شكلت «خط ماجينو» الذي أقامته فرنسا في الحرب العالمية الثانية لمواجهة الهجوم الألماني. إضافة إلى ما كانت إسرائيل تتلقاه من دعم عسكري مفتوح من الولايات المتحدة، ما أثّر لاحقاً في ما تحقق ميدانياً.

بمعزل عمّا يقال عن الحصاد السياسي لنتائج حرب أكتوبر إلا أن ملحمة العبور، وما أنجزه الجندي العربي من إنجاز، سوف يبقى نقطة مضيئة وساطعة في تاريخ العمل العسكري العربي وفي سجل البطولات دفاعاً عن الأمة ومستقبلها وتاريخها، وتنفيذاً لواجب تحرير الأرض، وذلك قياساً بحجم المهمة والظروف والجهد وتكاليف المعركة.

قبل ملحمة العبور كان الظن أن الاحتلال أبدي، والعدو أعد لذلك كل مستلزمات البقاء. لكن في ظهيرة ذلك اليوم بدأت غيوم الاحتلال تتبدد، وبدأت تسطع خيوط الشمس من وسط الظلام الحالك، ليعلن العرب أنهم لا يسكتون على ضيم، ولا يقبلون باحتلال.

مئات الآلاف من الجنود المجهولين صنعوا ذلك النصر المجيد، وبدمائهم وجهدهم وعرقهم حققوا ملحمة سوف تظل تروى في كتب التاريخ عن عظمة هذا الإنجاز الذي صار درساً يعطى في الكليات العسكرية العالمية حول الخداع الاستراتيجي الذي سبق الملحمة لمفاجأة العدو، ثم الخطط العسكرية لعبور أكبر مانع مائي، ثم اقتحام «خط بارليف» وهو واحد من أخطر خطوط الدفاع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yf8mr3cy

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"