عادي
قصة حقيقية عن سبّاحة ستينية استثنائية

«نياد».. تشويق من نوع آخر

23:40 مساء
قراءة 5 دقائق

مارلين سلوم

ما الذي يدفعك لمشاهدة فيلم بطلته ليست حسناء شابة، ولا من نجمات الصف الأول الجاذبات للجمهور في أي عمل يقدمنه، ولا القصة رومانسية، أو اجتماعية رومانسية، ولا كوميدية، ولا حتى رعب مشوّق؟ لا بد أن يكون خلف فيلم «نياد» تشويق من نوع آخر، وبطلتان مختلفتان ومخرجان متميزان، وفي القصة ما يجعلك تحجز لنفسك مقعداً لمتابعة الأحداث لمدة ساعتين تقريباً، بلا ملل أو ندم.. «نياد» قصة حقيقية عن امرأة ستينية استثنائية، سبّاحة أمريكية متقاعدة قررت تحدّي نفسها، وسنّها، ونظرة العالم إلى المرحلة العمرية «الستينية»، والسباحة مسافة 177 كيلومتراً بلا توقف، من كوبا إلى فلوريدا.. وفيلم كتب نجاحه بسواعد وجهود فريق عمله الذي تفوّق على القصة نفسها، وعن ديانا نياد وإنجازاتها.

أي عنصر من عناصر الفيلم السينمائي يستطيع التفوق ولفت أنظار الجمهور والنقاد، على حد سواء، يصبح هو مركز الاهتمام، وعنصر الجذب الأول لهذا العمل، ويدفعك للحديث عنه في البداية، وقبل أن تدخل في تفاصيل الفيلم؛ وحين تتحدث عن «نياد»، يسحب تفوّق النجمتين أنيت بينينج وجودي فوستر، البساط من تحت البطلة الحقيقية ديانا نياد، ومن قصتها الغريبة، والمثيرة للجدل في عالم رياضة السباحة الفردية للمسافات الطويلة، فتشعر بأنك تحمست في البداية لمعرفة قصة تحدي المرأة الستينية، لقدرات البدن في هذا العمر، والمغامرة بقطع مسافة 110 أميال في البحر، لكنك وقعت أسير أداء بينينج للشخصية، ومعها فوستر بدور بوني مساعدة ديانا، ومدرّبتها، والإخراج اللافت للزوجين جيمي تشين وإليزابيث تشاي فاسارهيلي المعروفين بإخراجهما للأفلام الوثائقية القصيرة عن الرياضيين غير العاديين، وقد نالا جائزة الأوسكار عن فيلمهما المذهل «Free Solo» «فري سولو» لعام 2018، عن قصة المتسلّق الحر أليكس هونولد، خصوصاً أن «نياد» هو أول أفلامهما الروائية الطويلة.

ديانا نياد، 28 عاماً، سباحة أمريكية تشارك في ماراثون تلو الآخر، من هنا يبدأ الفيلم أحداثه شارحاً معنى كلمة نياد باليونانية «حورية البحر»، وهذا التفسير تعتز به ديانا، وتردده، وتعيده باستمرار على مسامع كل من تقابله لأول مرة، وحتى تذكّر به معارفها.. مشاهد حقيقية أرشيفية يعرضها المخرجان لجولات نياد، من كابري إلى نابولي، مانهاتن، من باهاماس إلى فلوريدا، من كوبا إلى هافانا.. لكن حلم حياتها كان، ولا يزال السباحة من كوبا إلى فلوريدا، أي السباحة نحو 60 ساعة، من دون الخروج من الماء، ولو لتناول وجبة طعام، أو الاستراحة.

الصورة

صداقة طويلة

ننتقل لنرى ديانا اليوم (أنيت بينينج)، في الستين من العمر، تطلب من صديقتها الأقرب إلى قلبها، -صداقة استمرت أكثر 30 عاماً وما زالت بوني ستول (جودي فوستر) هي الصديقة الصدوقة والسند الحقيقي- عدم الاحتفال بعيد ميلادها هذا العام، فقد أصبحت في الستين، والعالم يقرر أن من يبلغ هذا العمر لا يعود صالحاً لشيء، كل ما عليه فعله هو الانتظار.. لكن بوني تُعد مفاجأة لصديقتها وتحضر كل معارفهما للاحتفال بديانا، ما يدخل السعادة إلى قلبها، وبعد الحفلة تتناقش مع بوني في أسئلة كثيرة تراودها، وأبرزها: ماذا يفعل الإنسان في حياته؟

وفق القصة التي كتبتها ديانا نفسها في كتاب، وأعادت صياغتها سينمائياً جوليا كوكس، اعتزلت السباحة منذ 30 عاماً، تحولت فيها إلى مقدمة لبرنامج «عالم الرياضة الواسع»، على قناة «إيه بي سي» ومحاضِرة تتمتع بقدرة عالية على لفت انتباه الناس في حديثها، والتأثير فيهم، وإرشادهم، لكننا لم نفهم لماذا توقفت عن السباحة كلياً، ولمدة 30 عاماً؟ لماذا لم تعد تمارسها، ولا حتى في حوض السباحة، ثم فجأة قررت أن تتحدى ذاتها والعالم، فتحمل عدّتها وتتجه إلى المسبح مستعيدة حركاتها في المياه، ومعها مقتطفات من ذكريات طفولتها؟

ذكريات الماضي

يجعل المخرجان من التصوير تحت المياه أثناء سباحة ديانا طوال الفيلم، مناسبة لاستعادة ذكريات الماضي، وسرد أجزاء ومحطات مهمة من حياتها، منذ أن بدأت السباحة، وتشجيع والدها لها، وما قاله عن النجوم المتلألئة في السماء، وأن «هناك في البعيد يوجد البحر وكوبا».. كوبا التي اعتبرتها الحلم الأجمل في حياتها، بدأ عندما كانت تبلغ 9 سنوات، وتعيش في فورت لودرديل خلال الثورة الكوبية، وتدفق الكوبيين الفارين إلى الولايات المتحدة، فسألت والدتها لماذا لم تتمكن من رؤية كوبا من شواطئ فلوريدا؟ فأخبرتها والدتها أن كوبا هناك حيث الأفق، ففكرت الطفلة أن السباحة ستمكنها يوماً ما، من عبور تلك المسافة؛ وتقول نياد: «في أعماق ذاتي، كانت تلك هي السباحة الأكثر أهمية بالنسبة إلي».. لكن المستغرب أن توقظ المرأة الستينية تلك الرغبة مجدداً بعد احتفالها بعامها الستين، وتقرر تحدّي العالم المقتنع بأن من يصلون إلى هذا العمر يصبحون بلا فائدة، غير قادرين على التحدي، وديانا من الأشخاص الواثقين جداً، بقدراتهم، عنيدة إلى حد الأنانية، اللحوحة، والمصممة على تنفيذ قراراتها بغضّ النظر عن أي ثمن، وأي عواقب، والدليل إصرارها على السباحة من كوبا إلى فلوريدا، فأقنعت بوني بالأمر، وحاولت عبثاً الحصول على راع لرحلتها هذه.

الرحلة الأولى

أول رحلة قامت بها في سن ال61، باءت بالفشل، واستمرت في محاولاتها بلا يأس، رغم كل الصعاب والمشاكل الصحية التي واجهتها، تورم في وجهها، وعينيها، لسعات قنديل البحر التي أحرقتها، وكادت أتقضي عليها، هلوسات يسببها طول البقاء في المياه، والتركيز على السباحة فقط، عدم القدرة على تناول الطعام الصلب فتكتفي بالسوائل القليلة، تحمّل برودة المياه.. لتحقق حلمها في المحاولة الخامسة عن عمر 64 عاماً، بالوصول إلى فلوريدا (177 كيلومتراً).

أصعب ما في هذا التحدي، أن نياد رفضت الاستعانة بشباك تحوطها كي تمنع وصول سمك القرش إليها، خصوصاً أنها تعبر منطقة معروفة بكثرة تلك الأسماك فيها، وكذلك قنديل البحر السام، وبفضل فريق العمل الذي كوّنته بوني لمرافقتهما في رحلتهما هذه، من راكبَي الكاياك، والمسعفين، والبحارة، والمدرّبة (رافقها أربعون شخصاً، لكن الفيلم حصرهم بفريق صغير لا يتجاوز السبعة أشخاص)، تمكنت من إتمام المهمة، حيث استعان راكبا الكاياك بمادة يطلقانها في المياه عند رؤية قرش يقترب منهم تجعله يهرب فوراً، نظراً لرفضها الاستعانة بالشباك كي تحقق إنجازاً غير مسبوق في عالم السباحة الطويلة، وإضاءة فوسفورية حمراء تساعدها على الرؤية في الظلام، وزيّ سباحة وقناع صُمما خصيصاً لها لحمايتها من قناديل البحر في مناطق معينة، ومن شروط هذا النوع من المنافسة أن تخدم السبّاحة نفسها بنفسها، فارتدت هذا الزي بمفردها، وخلعته بمفردها، وممنوع أن يلمسها أي من فريق عملها، كي لا تخل بالقوانين، وتخرج من المنافسة؛ أضف إلى كل ذلك الحسابات الدقيقة للطقس واتجاهات الرياح، وكيف يمكن السباحة وفق اتجاه التيار كي تكسب وقتاً وتقلل مجهوداً، والتي تولاها البحار جون بارتليت (أداه ببراعة رايس إيفانس)، والذي توفي بعد أشهر قليلة من نجاح ديانا في المهمة، وقد أشار في الفيلم إلى مرضه.

نجمة لا تكترث للشكل

بينينج بدت شرسة بصوتها، وحركاتها، وملامحها، وغضبها، ونظراتها.. بلا ماكياج، بل ظهرت معظم الوقت غير مهندمة، فأكدت للجمهور أنها نجمة لا تكترث للشكل، بل تضع كل قوتها في أدائها لتقدم أفضل ما لديها، وهي تستحق الأوسكار عن دورها.. أما جودي فوستر فهي رائعة أيضاً، وكعادتها تلقائية في كل ما تجسده، لعبت دور المساعدة لديانا، ومنحتنا الإحساس فعلياً بأنها هنا لتساند زميلتها بينينج، لا لتتفوق عليها.. ثنائي أكثر من ممتاز، شكّل العصب الأساسي للفيلم؛ وللإخراج تألقه في التصوير تحت المياه والحفاظ على التشويق طوال الفيلم، ومنح العمل رونقاً رفع من شأنه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4w3rnd4u

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"