مفاهيم السياسة متغيرة

00:10 صباحا
قراءة 3 دقائق

ليس من مفهومٍ نظريٍّ يمكنه أن يبقى على حاله؛ ساكناً، ثابتاً، مقيماً داخل دلالاتٍ لا يطرأ عليها تغيير. المفاهيم كائناتٌ معرفيّة حيّة: تنمو وتغتذي بمواردَ جديدة، ويقع لها من الأعطاب والأزْمات ما قد يجعلها، أحياناً، عاجزة عن فهم أحوالٍ جديدة من الظّواهر التي تسمّيها. لا بدّ، إذن، من الاعتراف بتاريخيّة المفاهيم وبسريان أحكام التّطوّر عليها: الموضوعيّ منه والذّاتيّ.

من دون هذه النّظرة إلى التّاريخيِّ في المفاهيم، سيُلفي الفكرُ نفسَه ساقطاً في مطبٍّ معرفيّ هو افتراض يقينيّة هذه المفاهيم؛ الأمر الذي يتولّد منه تَعَالِيٌ بها عن قوانين التّطوّر (أي تأسيسٌ لوهْم مُطْلَقيّتها)، وبالتّالي، منْعُ موارد الحياة والنّموِّ المعرفيّة عنها لتتحوّل، بذلك، إلى كائنات ميّتة ومحنَّطة! وما أغنانا عن القول إنّ كلّ كبوةٍ تكبوها المفاهيم تفتح الباب أمام معرفةٍ ناقصة أو مضطربة ومشوَّشة... أو أمام لا معرفةٍ تلبس مسوح المعرفة. إذا كانت هذه هي حقيقةَ المفاهيم في العلوم (التّجريبيّة والرّياضيّة) - وهي ما هي في الدّقّة وفي الموضوعيّة - فكيف، إذن، سيكون عليه أمرها في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة: حيث نسبةُ الموضوعيّة فيها دون التي في الأولى، بكثير؛ وحيث الصّلة بمتغيّرات الواقع والتّاريخ أكبر وأمتن، والسّيولةُ في المضامين والدّلالات أعلى تدفّقاً؟

التّطوّر الذي يخضع له تاريخ المفاهيم يكون من نوعين، مثلما هو يقع في فضاءيْن مختلفيْن: تطوّر موضوعيّ تفرضه على المفاهيم تغيُّرات الزّمان والمكان والوقائع والعلاقات؛ وهذا النّوع من التّطوّر يبدو- أكثر ما يبدو- على المفاهيم التي تنتمي إلى علوم المجتمع والإنسان وإلى الفلسفة (السّياسيّة، الاجتماعيّة، فلسفة التّربيّة، فلسفة التّواصل...)، أي إلى المعارف المرتبطة بميادين التّاريخ ووجهاته؛ وتطوُّر ذاتيّ هو عينُه تطور المعرفة من داخلها ومن تأثيرات فروعها المتبادلة أو من حصائل تراكماتها وما تشهد عليه - هي كمعرفة - من ثورات وفتوحات...إلخ.

لا يختلف الأمر في حالة مفاهيم السّياسة؛ إذْ هي، أيضاً، في جملة تلك المفاهيم التي تخضع، باستمرار، لأنواعٍ مختلفة من التّعديلات في مضامينها ودلالاتها بفعل أحكام عمليّة التّطوّر التّاريخيّ، بحيث تصيرُ دلالاتُها في سياقاتٍ من الاستخدام لاحقة غيرَ ما كانَتْهُ في أصولها النّظريّة والتّاريخيّة. حين نلقي نظرةً، اليوم، على مفاهيمَ سيَّارةٍ في المجال التّداوليّ السّياسيّ - الفكريّ والعموميّ معاً - مثل: السّلطة، الدّولة، الغالبيّة، القلّة، السّيطرة، الهيمنة، التّعاقد، القانون، الحريّة، الأمّة، التّداوُل، الحقوق المدنيّة، التّمثيل، التّوافُق، الاستقلال، السّيادة، المشروعيّة... إلخ، سنلحظ أنّها باتت تكتسب دلالاتٍ جديدةً لم تكن لديها حين تبلورت قبل قرون من اليوم.

يتعلّق الأمر، في هذا، بمفاهيم السّياسة في ميادينها الفكريّة كافّة: في الفلسفة السّياسيّة، وفي علم الاجتماع السّياسيّ، وفي الأنثروپولوجيا السّياسيّة، ثمّ في علم السّياسة. تتغيّر حقول المعرفة للموضوع الواحد، لكنّ الجامع بينها هو تلك الفجوة التي تفصل الأصول النّظريّة لمفاهيم السّياسة تلك عن الظّواهر السّياسيّة التي تتناولها، اليوم، ميادين دراسات السّياسة. وليس هذه حالٌ خاصّة بمَفْهَمة السّياسة والسّياسيِّ وما يطرأ عليها من تبدُّل، بل هي حالُ ظواهرِ الاجتماع المختلفة؛ من اقتصادٍ واجتماعٍ وثقافةٍ وتربيةٍ ودينٍ ونظامِ قيم... إلخ؛ جميعها يتجسّد فيه ذلك البَوْن بين المفاهيم في أصولها وصيرورتها الدّلاليّة في الاستخدام.

ليس معنى هذا، قطعاً، أنّ الطّاقة الإجرائيّة العلميّة للمفاهيم تخْمد مع الزّمن، ومع طول العهد بأصولها التّكوينيّة (إذْ هي قد تغتني كطاقة بما يتحقّق من تراكمٍ معرفيٍّ في مسيرتها وخبرتها الاستعماليّة)، ولكنّ القصد إلى القول إنّ طروء التّغيُّر على المفاهيم من جهة التّغيُّر الذي يطرأ على موضوعها الخارجيّ ( الظّاهرة المدروسة) يكون، في العادة، مدعاةً إلى إنتاج مشكلتين هما، في حساب الأشياء، مشكلةٌ واحدة: خروج الموضوع المدروس (الظّاهرة) عن عالم المفهوم الدّلالي، المتعارَف عليه بين الدّارسين المتخصّصين، وعدم جاهزيّة المفهوم لاحتواء المتغيّر في الظّاهرة داخله.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/z8sekt2j

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"