خياراتنا في الحياة

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

عندما أنهينا المدرسة الثانوية، كنا مجموعة من الزملاء الراغبين في التوجه إلى القاهرة للدراسة في إحدى جامعاتها، وكنا نتداول فيما بيننا حول أي كلية علينا أن نسعى للانتساب إليها، تبعاً لما نلمسه في نفوسنا من ميول، وفي تلك الفترة قدّر لنا أن نتعرف إلى زميل يرغب هو الآخر في الدراسة في مصر، وكلما التقيناه وجدناه يقول إنه اختار تخصصاً غير الذي قاله لنا في المرة السابقة، فمرة يقول إنه سيقدّم أوراقه لكلية الهندسة، وأخرى يقول إنه سيقدّمها لكلية الحقوق، أو الاقتصاد والعلوم السياسية، ثم يأتي في مرة ثالثة، أو رابعة، ليقول إنه صرف النظر عن كل ذلك، واختار أن يدرس طب الأسنان.

كان هذا الزميل مبعث تندرنا، ولا أذكر على أي تخصص استقرّ في النهاية، أو أي كلية قدّر له القبول فيها، وإن كنت أشك في أنه أنهى دراسته الجامعية، بصرف النظر عن التخصص. نموذجه يمثل الصورة «الكاريكاتيرية» للناس جميعاً، الذين لا يعرفون في مستهل وعيهم أي طريق في الحياة سيسلكون، ويجدون، بعد حين، قد لا يطول، أن للحياة نفسها منطقها، وهي التي تتولى غربلة خياراتنا، وتفرض علينا خياراً محدداً، وغالباً ما يكون وحيداً، تمليه عوامل مختلفة، بينها قدراتنا الذهنية، ومستوى مهاراتنا، وظروفنا الحياتية الملموسة. نحن، في الأغلب، لا نصنع الأقدار إنما هي التي تصنعنا.

الأمر لا يتصل بتخصصنا الدراسي وحده، وإنما بكل خياراتنا في الحياة، فما أكثر ما تتنازعنا رغبات وميول يبلغ الاختلاف بينها حدّ التناقض، قبل أن نرسو، راضين أم مكرهين، على خيار بعينه.

ارنستو ساباتو في كتابه «الكاتب وكوابيسه» يدعونا لأن نجعل هذا الأمر واعياً، وألّا نتركه للصدف، فهو يرى أنه في هذه الحياة «المحدودة والوحيدة» التي منحت لنا نحن مرغمون المرة تلو الأخرى على اختيار واحد فقط لا غير «من بين طرق لا يُحصى عددها»، واختيارنا إمكانية واحدة فقط، يعني «أن نقذف البقية في العدم»، مع أننا حين نفعل ذلك، ليس بوسعنا القطع بأي طريق سيأخذنا الخيار الذي اخترناه، ويشبّه ساباتو حالنا هذه بحال البحار «الذي عليه أن يتجنب الصخور الخطرة في الضباب أو الظلام»، وكون الموت هو مآل البشر جميعاً، بكّر في المجيء أو تأخر، فإن ذلك يجعل الأمر أكثر إيلاماً، حين يتعذر علينا، بعد أن يمتد العمر، أن نعود عن الخيار الوحيد الذي عليه رسونا، فلا متسع في العمر لرفاهية مثل هذه.

قد تبدو هذه دعوة للتشاؤم، أو التسليم بالأمر الواقع، لكنها، على الأرجح، دعوة للتبصر المبكر في ما نريد لأنفسنا أن نكونه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/5bnvt7dh

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"