عادي

رفح.. الملاذ الأخير

22:55 مساء
قراءة 4 دقائق
رفح.. الملاذ الأخير

غزة: حلمي موسى

أحدثت الحرب على غزة اهتماماً دولياً واسعاً أعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة المشهد العالمي. وفي هذا السياق احتلت رفح مكانة مميزة بسبب كونها جزءاً من قطاع غزة الذي يتعرض للتدمير المنهجي من ناحية، ولأنها على الحدود المصرية، والأهم لأنها باتت مأوى وملاذاً لأكثر من نصف سكان قطاع غزة. ورغم القصف المتواصل على رفح ومحيطها، منذ بداية الحرب قبل أكثر من أربعة أشهر ونصف الشهر، إلا أنها ظلت في نظر الكثيرين أكثر المناطق أماناً في القطاع.

لم يكن سكان رفح، بلدة ومخيماً ومزارع، يزيد على ربع مليون نسمة في أفضل الأحوال، قبل الحرب، فباتوا في ظل الحرب ما يزيد على مليون وأربعمئة ألف. ولم تكن رفح المكان الأكثر تقدماً لجهة البنى التحتية، أو المشاريع السكنية ما جعلها، حقاً وفعلاً، موقعاً طرفياً حدودياً في القطاع مجاوراً لصحراء سيناء.

ولولا فترة ازدهار تجارة الأنفاق وقت اشتداد الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة لبقيت رفح مكاناً بعيداً عن مركز الحياة في قطاع غزة، رغم ضيق مساحته. ومع ذلك، ورغم أن مساحة محافظة رفح تبلغ 64 كيلومتراً مربعاً، وكانت تتسع لسكانها الذين يجمعون بين البداوة والفلاحة رغم أن أغلبيتهم لاجئون أصلاً، إلا أنها ضاقت بما وصلها إليها من نازحين جدد.

فعدا عن مئات ألوف النازحين من غزة وشمالها الذين وصلوها وقت بدء العملية البرية الإسرائيلية في غزة وشمالها، تصاعدت أعداد النازحين لتقرب من مليون وأكثر، بعد الهجوم البري على خان يونس والمعسكرات الوسطى. وهذا ما جعل محافظة رفح، وفق «اليونيسف»، تؤوي حالياً، أكثر من نصف سكان قطاع غزة، ما يجعلها أكثر الأماكن اكتظاظاً على وجه الأرض.

مخيمات في كل مكان

غير أن المشكلة الجوهرية لا تكمن في كثافة وازدحام المنطقة بالسكان، وإنما في طبيعة انتشارهم على مساحات متناثرة من التلال الرملية، والمزارع البسيطة، وصولاً إلى شاطئ البحر، وحرم السياج الحدودي مع مصر. وتشهد خريطة المخيمات المرتجلة القائمة في رفح على أن الكثافة الكبرى قامت في المناطق المفتوحة قرب الحدود، وعلى أطراف مخازن وكالة الغوث، فضلاً عن انتشار المخيمات في الملاعب، والشوارع، وداخل مدارس رفح. وافتقر هذا الانتشار إلى البنى التحتية اللازمة، سواء كانت بنى صحية، أو تموينية وإغاثية.

فرفح مثل غيرها من مناطق قطاع غزة، تتعرض يومياً لغارات جوية وبحرية، وقصف مدفعي ما يجعلها، كغيرها، منطقة غير آمنة. وهذا يضعف أي شعور بالاستقرار ليس بين النازحين فقط، وإنما أيضاً بين السكان الأصليين. ويضاعف من شعور عدم الاستقرار تداخل مناطق رفح وتشابكها مع مناطق خان يونس التي تتعرض حالياً لأشد الهجمات البرية والغارات الجوية. ويكاد كل من يعيش في رفح يشعر بأن كل قذيفة تسقط على جنوب خان يونس كأنها تسقط قرب بيته، أو تستهدفه شخصياً. وطبعاً لا يزيد هذا في أي إحساس بالأمان، ما يزيد شعور النازحين بالاستهداف.

توقع كارثة إنسانية

وقد تزايد القلق وبلغ ذروته مع تعاظم التهديدات من جانب القيادتين، السياسية والعسكرية، الإسرائيليتين، بقرب بدء الهجوم البري على رفح ليس للقضاء على قوات المقاومة فقط، وإنما أيضاً لإعادة السيطرة على محور فيلادلفيا الحدودي مع مصر. ولمن لا يعرف معنى استعادة السيطرة على هذا المحور، فإن المقصود هو تدمير ما لا يقل عن نصف رفح الواقعة طولياً على الحدود مع مصر، خصوصاً الأحياء الجديدة، كالسلام والجنينية، ومخيمات قديمة مثل يبنا والبرازيل. ويكفي الشعور بأن ما حدث في غزة وشمالها وخان يونس يمكن أن يتكرر في غزة ليدفع كثيراً من الناس إلى الاقتراب من فقدان العقل. فالحديث لا يدور عن حدث متوقع، وإنما عن تجربة تتكرر، وتتنقل من مكان إلى آخر.

وأمام هذا الواقع صار الجميع يتحدث عن كارثة إنسانية هائلة على وشك التحقق. فمنظمة الصحة العالمية حذرت من أن شن هجوم عسكري إسرائيلي واسع على رفح سيتسبب ب«كارثة لا يمكن تصوّرها»، ويزج بالنظام الصحي في القطاع ليقترب أكثر من حافة الهاوية.

كما أن ممثل هذه المنظمة في الضفة والقطاع أعلن أن الكارثة هذه لا يمكن تصورها، وأنها «ستزيد من حجم الكارثة الإنسانية إلى ما هو أبعد من الخيال».

وما هو أبعد من الخيال أن الحرب الإسرائيلية على غزة قضت وبشكل منهجي تقريباً على القطاع الصحي عبر استهداف المستشفيات المركزية وتدميرها، وآخرها ما حدث في مستشفى ناصر في خان يونس. ومعروف أنه ليس في رفح أي مستشفى يستأهل هذا الاسم، حيث إن ما يسمى بالمشافي في رفح أقرب إلى العيادات منها إلى مستشفى. ورغم أنه أقيمت في رفح في ظل الحرب مستشفيات ميدانية، إلا أنها لا تستطيع تلبية الاحتياجات الإنسانية لمليون ونصف المليون إنسان. وهكذا، فإن الصورة العامة للحياة في رفح خليط من انتظار لمصير غير محدد الوجهة في ظل حرب نفسية هائلة القوة، وتراكم لأحاسيس متناقضة بالعجز حيناً، وبالصمود أحياناً، ومن غير تأكيد حول ماهية الهدف.

إن احتياجات الناس الطبيعية، من مسكن ومأكل ومأمن، غير متوفرة بأساسياتها، وأولوياتها، وما يفاقم أزمتها أن النازحين غالباً فقدوا بيوتهم وأعمالهم، وباتت مواردهم محدودة. ونظراً لنقص الموارد فإن من لا يطيق العيش في الخيام المرتجلة غالباً لا يستطيع توفير إيجارات سكن خيالية.

كما أن من لا تروق له المعونات الإنسانية المحدودة لا يستطيع توفير احتياجاته من الأسواق نظراً لندرتها. وكثيرون لا يستطيعون تخيل أسعار أغراض عادية كالزيت والسكر والوقود، وما شابه، والتي تضاعفت أسعارها عشرات المرات. مثلاً ليتر البنزين الذي كان بحدود دولارين يباع، إن توفر، بنحو 35 دولاراً.

كما أن سعر كيلو السكر الذي كان نحو 70 سنتاً، يزيد الآن على 20 دولاراً. ورغم ذلك، فإن الحال في رفح لا يزال أفضل من مدينة غزة وشمالها، حيث المجاعة حقيقية، وأسعار المواد الغذائية جنونية.

وطبيعي أن مثل هذه الأوضاع لا تزيد حال الناس إلا سوءاً.. ورغم ذلك فإن رفح تبقى الملاذ الأخير بانتظار ما سيأتي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/5f3b637s

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"