عادي

سؤال الهُوية الوطنية

23:43 مساء
قراءة 3 دقائق
يوسف الحسن

د. يوسف الحسن
سيبقى سؤال الهُوية الوطنية يشغل حيّزاً غير قليل في فكر ومناقشات وهموم ورؤى المستقبل، في مجتمعات عديدة، ومن بينها مجتمع الإمارات، وهو سؤال يواجه البشر منذ نشأة الخليقة، ومحوره هو: من أنا؟ ومن نحن؟ بأبعاده الثقافية والمعرفية والفلسفية والفكرية، وعلوم السياسة والأمن الوطني وإدارة الحكم.

مجتمعات معاصرة، ومتقدمة، تنشغل بهذا السؤال، وخاصة حينما تخشى من تعرض هويتها للانكسار أو التشويه أو الغيبوبة، فتهب لبلورة مدركات أفرادها عن الذات والوطن والتراث، وللإمساك بتجربتها المشتركة وذاكرتها المشتركة، والتي تتوارثها جيلاً بعد جيل، وتتأثر بفعل عناصر جديدة وبتفاعل مع ثقافات وقيم متنوعة، وبخاصة إذا كان للجغرافيا سطوتها على مكان الهُوية، وإغراءات الجذب متوفرة.

تَخوَّفت «المؤسسة العميقة» الأمريكية، المحصنة بهوية (الأنجلوسكسون بروتستانت البيضاء) أمام أعراق وثقافات ولغات مختلفة، تزداد قوة وعدداً وتأثيراً، فصعد سؤال الهُوية: من نحن؟ وحضر نموذج (ترامب) وتيار (الأنجاليكان) اليميني الجديد.

تخوف زعماء فرنسا، قبل عقود، من مدى قدرة الهُوية الثقافية الفرنسية على الصمود في وجه الاختراق الثقافي والإعلامي الأجنبي، فعارضوا اتفاقيات (الجات)، حماية للهُوية الثقافية الفرنسية.

تحرص اليابان على استمرار تدريس اللغة اليابانية، والتي قد تقلل من تواصلها مع العالم، باعتبار أن اللغة جزء من الهُوية، وأداة تفكير، وليست مجرد لغة كلام بين الناس.

وهي أيضاً محدد أساسي لفهم طبيعة عقل المواطن وتكوينه ونظرته إلى الكون، وإذا ماتت لغة قوم، ماتت معها مجموعة قيم ومعارف وتراث. وفي الوقت نفسه، فإن التمكن من لغة أو لغات أخرى، حاملة للمعرفة الجديدة، هو ضرورة للتواصل والتفاعل الإنساني مع مسيرة التطور المعرفي في العالم.

سؤال الهُوية الوطنية مطروح على مجتمعنا الإماراتي، منذ تأسيس الدولة الاتحادية، ونلمسه في كل خطب وأقوال قادة الإمارات، وخاصة منذ عام 2008، حينما دعا المغفور له الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، طيب الله ثراه، لإعلان ذلك العام عاماً للهُوية الوطنية، والتي تعبر عن وجود الشعب، وقيمه وعاداته وتقاليده ولغته وموروثه التاريخي وتراثه الثقافي. وفي الوقت نفسه هي ركيزة من ركائز الأمن الوطني، وكلما اكتسبت الثقة بالنفس، كانت أكثر قوة وفاعلية، وأكثر استعداداً للانفتاح على هويات أخرى، والتواصل معها، والتفاعل والتعلم المتبادل، واحترام الاختلاف.

يخطئ من يعتقد، أو يُرِّوج، بأن الهُوية الوطنية هي هُوية معولمة، وأن المواطن هو مواطن معولم، وأنه لا ضرورة للغة العربية، كعنصر أساسي في الهُوية، فضلاً عن العقيدة الإسلامية.

كما يخطئ من يطالب بإجراء قطيعة بين الماضي والحاضر، لبناء هُوية «رخوة» بلا ذاكرة، وباعتبار أن ذلك يصب في خدمة هذا «الكنز» الاقتصادي المتمثل في وجود أكثر من مئتي جنسية تعيش معنا بهويات متنوعة وثقافات وأنماط عيش متعددة، وفي بيئة آمنة ومستقرة وملهمة ومزدهرة.

ولعل ذلك، في رأيي، فرصة ضرورية لمواجهة هذا التحدي، من خلال سياسات وطنية مستدامة لتحصين الهُوية الوطنية، ووقاية المجتمع من أي تأثيرات سلبية، وفي الوقت نفسه تعزيز المجتمع كواحة للتنوع الثقافي والتعايش السلمي بين معتقدات وأعراق وثقافات مختلفة.

تحديات كثيرة تواجه الهُوية الوطنية، وتتطلب تعزيزاً للحس الوطني من خلال سياسات ومبادرات تحمي مقومات هذه الهُوية، في ظل تحولات جذرية في عالم اليوم، وتحديات كثيرة، ومن بينها: دور التنشئة الاجتماعية في مجال إنتاج شعور بهُوية المواطن الفرد، وبالهُوية الجمعية، وتنشئة أجيال متوازنة، تعطي وزناً للمشاعر الإنسانية، وللجماليات الفنية والأدبية وللفلسفة والآداب والاجتماع، يساوي الوزن الذي نعطيه لذكاء الآلة وقطاعات المال والأعمال.

- ومن بينها أيضاً، تحديات مخاطر ثقافة الاستهلاك التفاخري السائدة، وضعف مخزون رأس المال الاجتماعي، وإغراءات الثقافة المعولمة وسطوتها على الأجيال الناشئة.

ومنها أيضاً تحديات قيم نسعى لترسيخها في تشكيل وإغناء الهُوية لتكون ثقافة ومعارف ورموزاً بانية لهذه الهُوية، ونسقاً ومعايير في نفوس الأجيال كاحترام الاختلاف والقانون، واعتماد مبدأ المواطنة المتكافئة والعادلة، وقيم الخير والعطاء والتسامح وحمل المسؤولية، وتحويلها إلى منظومات ثقافية ومسلكية وتشريعية.

الهُوية المعولمة هي هُوية مقطوعة الصلة بواقع المجتمع وتاريخه وتراثه الحضاري العربي الإسلامي، في حين أن الهُوية الوطنية نابعة من الأرض والتاريخ والذاكرة الجمعية، ومرجعيات هذا الموروث، وطموحات شعب له عمقه العربي، وبعده الإنساني، كما تتميز بطابعها التفاعلي الدينامي في ظل التدفق المعرفي والثقافي الجاري في العالم.

.....

قبل أكثر من ثلاثة عقود، اقترح كاتب أمريكي شهير، على رئيس عربي كبير، «أن يزيل من مكتبه، لوحة مرسومة بالحرير الدمشقي لمعركة حطين، التي حررّت القدس من الفرنجة الغزاة». وقال هذا الكاتب، وهو يقدم موعظته الخرقاء: «إن إزالة هذه اللوحة، تعني البدء ببناء الثقة، والإعلان عن نوايا السلام!».

.......

لا هُوية وطنية، بدون ذاكرة وتاريخ وتراث ورموز وقيم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/39exnpph

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"