عادي

«أساس البلاغة».. الحقيقة ابنة المجاز

22:57 مساء
قراءة 4 دقائق

الشارقة: جاكاتي الشيخ

لا يمكن الحديث عن علماء الحضارة العربية الإسلامية من دون ذكر أبي القاسم محمود بن عمر بن أحمد الزمخشري (467 ه – 538 ه)، فهو واحد من علماء اللغة العربية والأدب والدين والتفسير، ولد في قرية تدعى زمخشر، بخوارزم (في أوزبكستان)، ونشأ فيها، وانشغل بدراسة العلوم الدينية واللغوية، ليبدأ رحلاته العلمية إلى العديد من البلدان، مثل: بخارى، والعراق، والحجاز، حيث جاور بمكة فلقب ب«جار الله»، ليعود بعد ذلك إلى موطنه الأصلي ويتوفى فيه. درَس على العديد من العلماء، من بينهم، محمود بن جرير الأصفهاني، وأبو علي الحسن بن المظفر النيسابوري، وأبو منصور نصر الحارثي، وأبو عبد الله الدامغاني، وأبو السعادات ابن الشجري، وتتلمذ عليه العديد، مثل: إسماعيل بن عبد الله الطويلي، وعبد الرحيم بن عبد الله البزاز، وأحمد بن محمود الشاشي، وسامان بن عبد الملك، وضياء الدين المكي.

عاش الزمخشري حياة زاخرة بالعطاء المعرفي، فكان واسع العلم؛ متقناً للعديد من المجالات، رغم غلبة النحو واللغة والأدب والمواعظ على مؤلفاته الكثيرة، التي نجد من بينها، في اللغة: «أساس البلاغة»، و«المستقصى في الأمثال»، و«الفائق في غريب الحديث»، و«مقدمة الأدب» وهو قاموس من العربية إلى الفارسية، و«القسطاس في علم العروض»، وفي النحو: «المفصل في صنعة الإعراب»، و«الأنموذج»، وفي الأدب: مقامات يطلق عليها «مقامات الزمخشري»، وفي الحديث: «مشتبه أسامي الرواة»، وفي التفسير: «الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل»، وفي الفقه: «الرائض في علم الفرائض»، وفي الزهد: «أطواق الذهب في المواعظ». وفي الجغرافيا: «كتاب الأمكنة والجبال والمياه».

مدحه الشعراء والأدباء في عصره، وطلب العلماء أن يعطيهم الإجازة في رواية كتبه، ومن تواضعه في ذلك ما يذكره ابن خلكان في وفيات الأعيان، أن الحافظ أبا الطاهر السِلَفي كتب إليه من الإسكندرية يستجيزه، وكان الزمخشري مجاوراً بمكة، فكتب إليه جواباً طويلاً يقول فيه: «ما مثلي مع أعلام العلماء إلا كمثل السُّها مع مصابيح السماء... وما التلقيب بالعلامة، إلا شبه الرقم بالعلامة.. والعلم مدينة أحد بابيها الدراية، والثاني الرواية، وأنا في كلا البابين ذو بضاعة مزجاة، ظلي فيها أقلص من ظلّ حصاة، أما الرواية فحديثة الميلاد، قريبة الإسناد».

دلالات

يصنّف كتاب «أساس البلاغة» كواحد من أهم وأشهر المعاجم اللغوية التي ترصد الألفاظ العربية ودلالاتها، ما جعله يحظى بمكانة علمية كبيرة لدى كبار اللغويين، وأصبح مرجعاً موثوقا للغة العربية الأصيلة، حيث يقول حاجي خليفة في «كشف الظنون»: «وهو كتاب كبير الحجم عظيم الفحوى من أركان فن الأدب، بل هو أساسه، ذكر فيه المجازات اللغوية والمزايا الأدبية وتعبيرات البلغاء».

ويقول الزمخشري في مقدمة كتابه هذا عن خصائصه: «من خصائص هذا الكتاب تخيّر ما وقع في عبارات المبدعين، وانطوى تحت استعمالات المُفلقين، أو ما جازَ وقوعه فيها، وانطواؤه تحتها، من التراكيب التي تملُح وتحسُن، ولا تنقبِض عنها الألسُن... ومنها تأسيس قوانين فصل الخطاب والكلام الفصيح، بإفراد المجاز عن الحقيقة، والكناية عن التصريح، فمن حصّل هذه الخصائص وكان له حظ من الإعراب الذي هو ميزان أوضاع العربية ومقياسها، ومعيار حكمة المواضع وقسطاسها، وأصاب ذَرواً من علم المعاني، وحظيَ بِرَش من علم البيان، وكانت له قبل ذلك كله قريحة صحيحة، وسليقة سليمة؛ فَحُلَ نثرُه، وجزُل شعره، ولم يطل عليه أن يناهز المقدَّمين».

قسم الزمخشري المعجم إلى كتب، بحيث اعتبر كل حرف كتاباً، ورتب مواده ترتيباً ألفبائياً على حسب حروف الهجاء، إذ راعى ترتيب أوائل أصول الكلمات، فيبدأ بالحرف الأول من الكلمة ثم الحرف الثاني ثم الثالث فالرابع... إلخ، ويبدأ كل حرف بالهمزة، ثم الباء ثم التاء إلى الياء، وهو ترتيب يشير في مقدمته إلى أنه أيسر وأسهل تناولاً من الطرق المتّبعة سابقاً، كالتقليبات والقافية.

وتتمثل طريقة عرض المؤلف للكتاب في أنه يشرح الكلمة في العربية، مُطعماً الشرح بشواهد من القرآن والأحاديث النبوية، والأشعار والأمثال العربية، ثم يذكر الاستعمالات المجازية للكلمة المشروحة، وكانت تلك الشواهد المتنوعة والدقيقة تدلّ على تمكنه من ناصية الأدب واللغة والبلاغة، فجعلت منه مرجعاً أدبياً ولغوياً وبلاغياً رصيناً، ليصير بذلك أول من فرق بين المعنى الحقيقي والمجازي للكثير من ألفاظ اللغة العربية، مُشكلاً بذلك ارتقاء باللفظة اللغوية من مستواها المعجمي، إلى مستوى دلالاتها المتنوعة بتنوع الموقف، وهذا ما جعله يتميّز عن سواه من المعاجم التي انحصر هدفها في جمع المفردات فحسب.

ومن اهتمام العلماء به، تأليف ابن حجر العسقلاني لكتابه «غراس الأساس»، الذي اقتصر فيه على ما أتى به الزمخشري من المجاز والكناية والاستعارة، كما اختصره الشيخ محمد عبد الرؤوف المناوي، وقلب فيه نظام ترتيبه الألفبائي الأصلي، وجعله على نظام القافية الذي يبدأ بالحرف الأخير من الكلمة.

وقد وجدت من «أساس اللغة» عدة نسخ مخطوطة، ذكر بروكلمان ثلاث عشرة نسخة منها، كما توجد بمكتبة الأسد منه أربع نسخ.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5e34t7n6

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"