عادي

أُسس الحوار مع الآخر

23:50 مساء
قراءة 4 دقائق

خلق الله سبحانه وتعالى الناس مختلفين في الألسنة والعقائد والمِلَل والأجناس: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود: 118)، وجعل الحوار بينهم هو وسيلة التعارف والتقارب، وأن الهدف الأسمى منه هو تقوى الله، كما قال جلَّ شأنه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، ولذلك كان الحوار وسيلة الأنبياء جميعاً في التعامل مع أقوامهم؛ لدعوتهم إلى عبادة الله، ولإقامة الحجة عليهم، كما في قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 64)، وكان منهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو الدعوة والحوار بالحكمة والموعظة الحسنة، قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل: 125)، وقال جلَّ جلاله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159).

ثَمَّةَ فرق بين الحوار والجدل أو الجدال، حيث إن الأخير منه ما هو محمود، ويشترك مع الحوار في أنه ذو هدف محمود، ومنه ما هو مذموم، وهذا لا فائدة من ورائه إلا الخصومة والمنازعة، ولذلك كان التوجيه الإلهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125)، وقوله تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت: 46)، وكما في قوله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة: 1).

سماحة الإسلام

نظراً لما يُولِيه الإسلام للحوار مع الآخر من أهمية، أكدها القرآن الكريم في مُحكم آياته، وتجلَّت في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فسنعرض بعض حوارات الرسول صلى الله عليه وسلم مع الآخر، لنتبيَّن سماحة الإسلام في دعوة غير المسلمين إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، مع حرصه الشديد على تطبيق قاعدة {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256).

يقول عمرو بن عبسة السلمي: «كنت وأنا في الجاهلية أظن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي فقدمتُ عليه، فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُستخفيًا، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال: أنا نبي، قلت وما نبي؟ قال: أرسلني الله، قلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يُشرك به شيئا، قلت: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال رضي الله عنهما. قلت: إني متبعك، قال: إنك لن تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرتُ فأتني. قال فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي، فجعلت أتخبَّر الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة، حتى قدم نفر من أهلي المدينة، فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سُراع، وقد أراد قومه قتله، فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت المدينة، فدخلت عليه، فقلت: يا رسول الله، أتعرفني؟ قال: «نعم، أنت الذي لقيتني بمكة؟» قال: فقلت: بلى. ثم قلت: يا نبي الله، أخبرني عما علمك الله وأجهله».

ويتبيَّن لنا من هذا الحوار تلطُّف الرسول صلى الله عليه وسلم، في الإجابة عن أسئلة الآخر، وعدم إكراهه على الدخول في الإسلام، بل حرصه على عدم إلحاق الأذى به من المشركين، ثم إعطاؤه الحرية الكاملة في أن يختار ما يعتقده صواباً، بالإضافة إلى أهم ما يميِّز الحوار الجاد الهادف، وهو الصدق مع النفس ومع الآخر، فلا تزييف ولا تجميل.. إنه النُّبل الإنساني متجسداً في رسول لا ينطق عن الهوى.

أدب المُحاوَر

مثال آخر لحوار الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أحد أحبار اليهود، يبيِّن أدب المُحاوَر (الرسول) مع المُحاوِر (اليهودي)، مع عدم المساس بدين الآخر نهائيّاً في الحوار معه.. يقول ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء حَبر من أحبار اليهود، فقال: السلام عليك يا محمد، فدفعته دَفعة كاد يُصرع منها، فقال: لِمَ دفعتني؟ فقلت: ألا تقول: يا رسول الله، فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اسمي محمدا الذي سماني به أهلي، فقال اليهودي: جئت أسألك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينفعك إن حدثتك؟ قال: أسمع بأذني، فنكث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعود معه، فقال: سل، قال اليهودي: أين يكون الناس يوم تُبدَّل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم في الظلمة دون الجسر، قال: فمَن أول الناس إجازة؟ قال: فقراء المهاجرين، قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد الحوت، قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال: يُنحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها، قال: فما شرابهم عليه؟ قال: من عين تسمى سلسبيلا، قال: صدقت، قال: وجئت أسألك عن الولد؟ قال: ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فَعَلَا مَنِيُّ الرجل مَنِيَّ المرأة، أذْكَرَا بإذن الله،

وإذا عَلَا منيُّ المرأة منيَّ الرجل، أنَّثا بإذن الله، قال اليهودي: لقد صدقت وإنك لنبيّ، ثم انصرف، فذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله به.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4ypz372y

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"