بين الوطنية والقومية

00:27 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السويجي

إن أصعب ما قد يواجهه الكاتب المشتغل بالسياسة، أو المنشغل بها، هو مواكبة المناسبات والكتابة عنها، خاصة إذا ارتبطت بقضايا كبيرة معقّدة لم تحقّق تقدّماً، أو تغييراً على مدى سنوات طويلة، قد تمتد لعقود. وتكمن الصعوبة أيضاً حين يكون أصحاب المناسبة منقسمين، ومرتبطين بأحلاف، ربما متناقضة، ما يطيل الأزمة ويزيد من تعقيداتها. وقد يندهش القارئ حين نقول إن هذه المناسبات قد تتضمن ما يراه البعض انتصاراً، كأعياد الاستقلال، لكنها في حقيقة الأمر ليست انتصارات، لأن البلاد لم تنجز ما ينعكس على مصلحة الشعوب، وحياتها، ومستويات معيشتها، وتطور خدماتها، وهنا، في هذا السياق بالذات، سيقول قائل متحمّس: وهل البقاء تحت الاستعمار والاحتلال أفضل من الاستقلال؟ وهنا أيضاً يبدأ جدال بيزنطي محتدم وفارغ لا طائل من ورائه، لأنه يرى بعين واحدة، ونفس واحد.

وبسهولة، يمكن للقارئ الحصيف الاستنتاج أن هناك أزمة كبيرة، أكبر من المناسبة، وقد تكون هي المسبّب لمراوحة الأزمة، أو المناسبة في مكانها، وقد ندعوها بأزمة الوعي أو أزمة الصدق والإخلاص، أي أزمة الانتماء، فالشعب الذي لم يتحرّر من الاستعمار أو الاستعباد، لديه معاناة الشعب ذاته، الذي حصل على استقلاله، لكنه بقي أسير الزعامات غير المخلصة لوطنها، أو لأحزاب تلعب بفكرة الوطن كما يفعل اللاعبون بكرة القدم، بل ربما يكون الحال الثاني أسوأ من الاستعمار أو الاحتلال، لأن الاستقلال يعني في أبسط شروطه ومتطلباته التقدّم والرخاء والرفاهية وكرامة الإنسان وأمنه وحقوقه وحريته، ويعني أيضاً التخلّص من الصراعات الداخلية والتطرّف والمذهبية. وهذه أمور بديهية لا تحتاج إلى حوار، لا ساخن ولا بارد، لأنها من بديهيات الحقائق.

لقد مرّت قبل ثلاثة أيام مناسبة وطنية وقومية صعبة ومعقّدة، وطنية للفلسطينيين هي ذكرى النكبة التي وقعت في العام 1948، ومناسبة قومية للعرب. ولأول مرة في التاريخ، ومن المنطلق النظري (لأنه لم يحدث تصادم مادي على الأرض)، يحدث تصادم بين الوطني والقومي، رغم أن الجهتين تؤكدان على عدالة القضية، وحق الشعب الفلسطيني في نيل حقه في الحرية والاستقلال وبناء دولته المستقلة.

ويأتي هذا التصادم من الإفراط في تفسير مصطلح (القرار)، إذ يرى الوطنيون أن القرار الفلسطيني يجب أن يكون فلسطينياً بحتاً، ويرى القوميون أن القرار الفلسطيني له بعد قومي، ويجب أن يكون القرار قومياً، وهذه مسألة معقّدة بعض الشيء، لكن محللين كباراً قالوا إن الفلسطينيين أخطأوا حين حاربوا في مؤتمراتهم للحصول على القرار الفلسطيني المستقل، لأنهم حيّدوا، من حيث لا يشعرون، العامل القومي من الصراع، بينما الصراع ليس وطنياً ولا قومياً فحسب، وإنما يمتد ليشمل الصراع حول حماية المقدسات، ومن الجهة التي يجب أن تديرها، الأمر الذي أبقى النكبة وطنية وقومية، وأبقى الصراع وطنياً وقومياً، ولا تزال تبعاته تتردد في كل عاصمة عربية.

من المؤسف حقاً أن نرى مشهد النكبة الأصلية يعيد نفسه، والنزوح يعيد نفسه من جديد، وهناك مفارقة عجيبة، ففي العام 1948 نزح حوالي 750 ألف فلسطيني، من كافة أنحاء فلسطين، من بيوتهم، أما الآن، فقد نزح أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني من بيوتهم في قطاع غزة وحده، وهي مفارقة لا تستند إلى تزايد أعداد السكان، ولكن إلى طبيعة السبب ذاته، مع الأخذ في الاعتبار أنه في العام 1948 كان الخطاب وطنياً بشكل عام، أما الآن فإن الخطاب تتداخل فيه العقيدة مع الوطنية، إلى درجة يصعب الفصل بينهما، مع ترجيح العقيدة على الوطنية في معظم الأحيان، خاصة حين ننظر إلى المرجعيات (النضالية)، وهذا، حسب رأيي، ما يعقّد المشهد، ويفرز الوطني القومي عن العقائدي، التي قد تكون رؤية مغامرة، فإن ما يحدث الآن يشبه مقولة (الربيع العربي)، التي انقلبت فيها الموازين وتشعّبت الانتماءات، وصار البحث عن الضحية يخضع لنظريات حديثة وقديمة، سلفية ومعاصرة. كل هذه الرؤية المغامرة لا تبرّر مطلقاً ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، وهو ناتج عن عدم تطبيق الاتفاقيات، مثل أوسلو وكامب ديفيد وغيرهما.

ولو عدنا إلى الأزمة التي تحدثنا فيها، بشأن الاستقلال والاحتلال، نجد جزءاً لا بأس به من الشعب العربي لم يحصل على استقلاله الفعلي، رغم الاحتفال بمناسبة الاستقلال، ولو كان قد حصل على استقلاله لما وجدنا اليوم الشعب الفلسطيني يحيي نكبته بنكبة أخرى، أو في ظل مشهد قريب من النكبة، فهل نحن أمام أزمة قيم سياسية؟ وأعني بهذا التساؤل أزمة انتماء وولاء؟ وبكل بساطة، لو لم تكن الأزمة موجودة لكانت الشعوب في حال أفضل.

من الطبيعي أن أستثني شعوب دول الخليج العربي، التي حقّقت تنمية استثنائية، في محيط مفعم بالتناقضات وعدم الاستقرار، وفي الوقت ذاته، لم تتخل عن انتمائها القومي، ودعمها للقضية القومية المتمثلة بقضية فلسطين، بل إن دولة الإمارات العربية المتحدة سجلت مواقف ريادية مؤخراً حين دعمت، وبقوة، ترشيح دولة فلسطين لتحصل على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وهنا يتجلى الانتماء الوطني والقومي، والحديث ذو شجون..

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"