حصان

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

يتماهى الحصان الذي تراه في الصورة التلفزيونية المنقولة من بعض المدن والأرياف العربية الفقيرة مع الإنسان، صاحبه، أو مالكه، أو الحوذي الذي ينشغل بالحذوة أو السرج أو اللجام، والواقع أن لا سروج ولا ألجمة وربما لا حذوات لمثل هذا الحيوان الهزيل، والأرجح أنه جائع مثل صاحبه، ومع ذلك، ها هو في الصورة يحمل الأمتعة.. ويجرّها على عربة من الخشب المتهالك.. ثم، وما هذه الأمتعة؟؟.. إنها خيش وخرق وطاسة أو فرشة إسفنج أو وسادة، ولا شيء أكثر أو أغلىٰ من ذلك، إذا دققت جيداً في الصورة التي لكثرة تداولها لم تفقد عمقها الدرامي إذا أردت الكلام بلغة المسرح..

والحصان، وقد يكون أدنى من ذلك، حماراً أو بغلاً، هزيلين أيضاً.. يمشي غير مكترث بالحرب وهو يعرف أنه يعيش في زمن الحرب، وأن شظية صغيرة حادّة قد تدخل فجأة إلى رأسه وتقتله في الحال، وهو يمشي، بهدوئه وخطواته المنتظمة وإيقاعه المرتب على حصىٰ وتراب في الشارع، متماهياً، أيضاً مع صاحبه، وصاحبه يعرف طبيعة هذا الحيوان المسالم جيداً، لأنه هو هذا الإنسان مسالم أيضاً، لا شأن له بقادة الحرب وغيرهم من منظّمي حفلات الدّم.. «حفلات الدّم؟..».. هل قلت أو كتبت هذه العبارة المثقفة؟؟، نعم ها هي مكتوبة الآن أمامك، غير أن الحصان لا شأن له أيضاً بهذا الدم، إنه بكل بساطة في حاجة إلى الماء وليكن ماءً عكراً إن كان بالإمكان أن يشرب صاحبه الماء الصّافي..

نكران للذّات ونبذ فطري حيواني للأنانية.. هذا الذي يقوم به الحصان الفقير الذي تكاد عظامه تخرج من ظهره لشدة ما هو هزيل.

هذه السردية البصرية لهذا الحيوان الجائع والظمآن معاً، تراها أنت في الصورة اليومية المتداولة بمهنية صحفية محترفة، وقد يتحوّل حصاننا هذا وفقاً لهذه السردية إلى بطل، ولكن، مرة ثانية، إن هذه البطولة لا تعنيه بالمطلق، إنه يمشي، وحسب، البطل فهو دائماً من صنع المؤلف، إن الحصان ليس بطلاً، ولا يريد أن يكون بطلاً، يريد فقط أن يجرّ عربته وعليها كل هذا المتاع المهاجر المغادر إلى مكان ما.. مكان معروف للحصان وصاحبه، وليس (لا مكان) مرة ثانية كما يريد المؤلف، فالمؤلف أصلاً لا يعرف المكان، ذلك الحيّز الدموي أو المجال الدرامي الذي يتحرك فيه الحصان، والمؤلف الذي هو أنا وأنت أو أي آخر لغوي يمتلك زمام الصورة الشعرية؟ ليس كالحصان، المؤلف ليس جائعاً، ولا ظمآن، ثم، ومهما امتلك المؤلف من عبقرية واقعية أو متخيلة، فإنه لن يكون حصاناً رائعاً مثل هذا الحصان الذي يمشي، ويمشي، وتطفح من خطواته لغته السرية الصامتة حين يلتفت فجأة إلى طفل ميت على الرصيف، وإذا به يشرب من دموعه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5t4jf6yf

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"