المثير للجدل

00:10 صباحا
قراءة دقيقتين

ليست إثارة الجدل حول أمرٍ ما بحدّ ذاته نقيصة أو مأخذاً. الجدل يثري المعارف والعلوم، ويغربل الأفكار، ويسهم في كشف الخطأ منها وتزكية ما صحَّ. قبل يومين تحدثنا عن «ثقافة السؤال» كنقيضٍ للاطمئنان إلى أجوبة مستقرّة تجاوزها الزمن، و«ثقافة السؤال» في أحد أوجهها نوع من الجدل. في قواميس اللغة نجد أن من مرادفات الجدل تعبيرات من نوع : جِدال، سجال، حوار، نقاش، مُناظرة، وهي كلها سبل، أو أدوات، تؤدي إلى معرفة حقائق لم تكن معروفة من قبل، تسهم في تطوير إدراك الأفراد والجماعات ووعيهم وعلمهم.

وليس بلا مغزى أن أهل اللغة لم يجدوا سوى مفردة «جدل» مقابلاً للمفردة اليونانية: «ديالكتيكا»، أو الديالكتيك، التي يقال إنها مشتقة من من فردة «الديالوغ»، أي الحوار وتبادل الحجج بين طرفين دفاعاً عن وجهتي نظر مختلفتين، ومن مفردة الديالكتيك اشتُقّ مفهومان فلسفيان ذاع صيتهما هما المادية الديالكتيكية في دراسة قوانين الطبيعة، والمادية التاريخية في دراسة المجتمع وتناقضاته وتحولّاته.

في التاريخ وفي الحاضر ما أكثر القضايا والشخصيات والأحداث والكتب والنظريات المثيرة للجدل، وهناك عدد لا يحصى من الأمثلة على ذلك. في تاريخنا العربي وفي حاضرنا أيضاً نماذج كثيرة على ذلك، وهو جدل له وجهان. في أحوال معينة يكون مفيداً ومُثرياً ومُفضياُ إلى ما يعود بالنفع في المجال الذي يتصل به الموضوع أو الشخصية المثيرة للجدل، وفي حالات كثيرة أخرى يمكن أن يتحوّل إلى باعثٍ أو محرضٍ على الفتن والفرقة، كما لمسناه ونلمسه في أكثر من موضع. ولأن «الأعمال بالنيّات»، علينا أن نقف على نوايا المنخرطين في الجدل، أهي نيّة حسنة باعثها علمي مشفوعة بأدوات البحث والمعرفة الرصينة التي يعوّل عليها، أم أن الباعث شرير، غايته الترويج للكراهية وإثارة الضغائن، وتوظيف تناقضات الماضي في صراعات الحاضر؟ وسائل التواصل الاجتماعي في زمننا الراهن سطّحت «المثير للجدل» وابتذلته على أوسع نطاق. البعض ينشر مواد وفيديوهات لا غاية لها سوى أن تكون مثيرة للجدل، لا تقديم معلومة مفيدة أو معرفة جديدة ولا هم يحزنون. المهم هنا هو ما باتوا يقولون عنه «ترند».

سأعترف في الأخير أن ما دفعني لكتابة كل هذا مجموعة عناوين صادفتني على عدّة مواقع إلكترونية، بعضها يمكن وصفه بالرصين، تريكم ما هو «المثير للجدل» في حاضرنا، وسأعطي نماذج من بعض هذه العناوين: «فنان يثير جدلاً كبيراً لوضعه إكسسواراً أشبه بالخلخال في قدمه»، «مشاجرة بين فنانة وطليقها تثير الجدل»، «مواجهة بين فنانة شهيرة ووالدة طفل تثير الجدل». أثار الجدل أيضاً أن ممثلة صوّرت نفسها وهي تؤدي العمرة بطلاء أظافر بلون أحمر. أحدهم علّق على الصورة مستنكراً: «مناكير بالحرم»؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3fkz4mzm

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"