النرجسية وجدت منذ أن وجد البشر على هذا الكوكب، والأرجح أنها موجودة عند كل الناس وبدون استثناء، لكن بنسب متفاوتة، خاصة أن الأمر قد يتداخل مع الثقة بالنفس، وهذه الأخيرة خصلة حميدة، لأنها من علامات قوّة الشخصية وضرورية لمنح الإنسان القدرة على التصدي لأعباء الحياة. ولأن «كل شيء إذا زاد عن حده انقلب لضده» كما يقال، فإن الإفراط في الثقة في النفس يصبح نرجسية مرضية؛ بل إن هناك رأياً وجيهاً يقول إن الواثقين من أنفسهم يميلون إلى التواضع، فليسوا في حاجة إلى استعراض قدراتهم بمناسبة أو بدونها.
في عالم اليوم، عالم وسائل التواصل الاجتماعي، ينشأ انطباع بأن النرجسية باتت، حكماً مما ينشره الكثيرون عليها، سمة من سمات عصرنا، لعل نموذجها الأسوأ من يُعرفن «الفاشنيستات»، ومن على غرارهن من الجنسين، ممن يولون اهتماماً استثنائياً بالذات، وبالمظهر الجسدي تحديداً، ربما تعويضاً، ولو في بعض الجوانب، عن فقدان المعني لأية مواهب أو قدرات يُعتد بها.
ينسب إلى مستشار نفسي بريطاني، هو تينيسون لي، تحديده لخمسة معايير لتصنيف شخص ما في خانة النرجسيين، هي على التوالي: الشعور المبالغ بأهمية الذات، وهم الشخص بأنه متميز وفريد من نوعه، أوهام النجاح والقوة، الشعور بالحسد من الناجحين، التكبر والعجرفة. هناك سمات إضافية أشارت إليها دراسات أخرى بينها: التوق إلى الإعجاب، الحساسية المفرطة تجاه أي نقد يوجه، فقدان مشاعر التعاطف مع الآخرين أو الاعتذار منهم، وعدم الشعور بالمسؤولية.
وحتى لو اتفقنا أنه يمكن تعريف النرجسية، فإن وجه الصعوبة هو في قياس درجتها لدى الفرد، ويفيدنا تقرير حديث بأن مستوى النرجسية ينخفض مع تقدم العمر، والتقرير المنشور على «بي.بي. سي» مبني على دراسة شملت أكثر من 37 ألف شخص، أفادت بأن الإحساس العالي بالأهمية الذاتية لدى النرجسيين قد يلين وينضج مع التقدم في العمر، إلا أنهم لا يستطيعون التخلص منه تماماً.
النرجسية ليست سمة للأفراد فقط، وإنما قد تطال الجماعات أيضاً. ثمّة فرق بين الشعور الوطني والاعتداد بالهوية الجمعية لكل شعب أو أمة، والشعور بالاستعلاء على الشعوب أو الأمم الأخرى، ومهما كانت درجة الخصوصية بين أمة وأخرى، التي تشمل الفارق في مستوى التحضر، فإن ذلك لا يبرر مشاعر التفوق المبالغ فيه، حد ازدراء الشعوب أو الجماعات الأخرى أو الحطّ من مكانتها، وتتجلى هذه النرجسية خاصة بالتباهي بالماضي، وتجاهل ما باتت عليه الأمة المتباهية بماضيها في حاضرها الذي لا يشبه ماضيها «المشرق».
أشد أخطر تجليات النرجسية هو «نرجسية السلطة». التاريخ والحاضر حافلان بالأمثلة على الزعماء النرجسيين الذين قادوا، بسبب هذه النرجسية، شعوبهم إلى المهالك، وبلدانهم إلى الخراب.
