عادي
صدر في الشارقة

رواية «المتاهة».. الذاكرة هوية الإنسان

23:51 مساء
قراءة 5 دقائق
برهان سونميز

الشارقة: علاء الدين محمود

«تتشكل هويتنا من خلال التجارب التي مررنا بها والأفكار التي طورناها بتأثير كل شيء حولنا»، هذه الكلمات للكاتب التركي برهان سونميز، تقدم إضاءة كاشفة لعوالم روايته «المتاهة»، الصادرة في نسختها العربية عن دار روايات، في طبعتها الأولى عام 2020، بترجمة: صفوان الشلبي. يعقد الكاتب من خلال الرواية مواجهة عميقة بين الإنسان وذاته، حيث تتكشف له الكثير من المجاهيل في داخله، ويتعرف إلى نفسه من جديد عبر حوار الذات، فالعمل يتحدث عن لحظة انتقال، غريبة وعجيبة، لنفس الشخص من مرحلة إلى أخرى، نتيجة لفقدان الذاكرة، حيث يعيش الإنسان بين حياتين في غربة، ومحنة.

تحكي الرواية قصة بطلها بوراتين، شخص فنان وحساس يواجه ثقل الحياة، وحيداً منفرداً، لكن قسوة الواقع تنتصر عليه، فيقدم على خطوة هي بالنسبة له المخرج الوحيد من عذاباته، عندما يقرر الانتحار قفزاً من أعلى جسر البوسفور، لكنه يفشل حتى في تجربة الموت، لتكتب له حياة أخرى، لكنها مختلفة تماماً عن الأولى، ستؤثر فيه أثراً مباشراً، وتجعله ينظر للحياة والأشياء والناس من حوله بمنظور مختلف، فقد عمقت تلك التجربة الفاشلة من أفكاره، ولم يعد ذلك الشاب الموسيقار البائس، بل تخلقت في دواخله أشياء جديدة، وربما لن يعلم القارئ أي الحياتين كانت أفضل، وهل كان الاختلاف في نوع الحياة، أم في معايشة ونظرة بوراتين لها؟ ربما لن يدري المتلقي أين تكمن الحقيقة، لأنها نسبية على كل حال، لكن السرد سوف يحرضه على التفكير والتأمل، ولعل ذلك ما يريده المؤلف، فالرواية تحمل الكثير من الرموز والعلامات، وتبحث عن قارئ يجيد فعل الالتقاط.

  • نغمة أم نقمة

تقدم دار النشر إضاءة عن عوالم الرواية، والتعريف ببطلها من خلال هذا المقطع: «موسيقي شاب حاول الانتحار، يفتح عينيه في المستشفى من دون أن يتذكر شيئاً، ولا حتى أغانيه. يختلط عليه الزمن، فيظن الأموات أحياء، والأحياء أمواتاً، يشك في حقيقة ما يراه، ويظنه جزءاً من التاريخ، ما عدا حقيقة واحدة لا يشك فيها: جسده بضلعه المكسور. لا يعرف إن كان النسيان نقمة، أم نعمة. يبحث عن أجوبة لما يجول في رأسه من أسئلة في الساعات، والمرايا، ومنارات البحر. إن المتاهة لا تروي معاناة رجل فقد ماضيه ويسعى لاستعادته فحسب، بل في مساحاتها البيضاء، بين السطور دعوة للقارئ إلى البحث عن الحقيقة والوصول إليها من خلال الشك فيها».

  • تفكيك

والواقع أن العمل السردي ينهض من خلال الاشتغال على لعبة تفكيك الأشياء من أجل البحث عن الحقيقة المجردة، لذلك كانت فكرة «فقدان الذاكرة»، هي نفسها جزء من ذلك التجريد والتفكيك، بحيث يكون بطل العمل محضَ إنسان مجرد، يتشكل من جديد، لأنه قد فقد ماضيه، وهويته، وكل الرؤى والأفكار التي كان يتكئ عليها، وينطلق منها عندما ضاعت ذاكرته، ولا سبيل أمامه غير طرح الأسئلة، والإجابة عنها، على شاكلة: «ما الذي يجعلنا على ما نحن عليه؟». وتلك مسألة، كما يقول العمل، تجول في خاطرنا طوال الوقت، من الخلايا في أجسامنا التي تموت، وتتجدد، إلى الذكريات التي نخلقها ونخسرها كل يوم، وتتضح الحمولة الفلسفية للعمل من خلال طرح سؤال العلاقة بين الجسد والروح.

  • المغني الوسيم

الرواية تخلق عوالم جميلة، يشوبها الكثير من الغموض، وتجعل القارئ متورطاً مع بطلها بوراتين، ذلك الشاب العشريني الوسيم الغريب، فقد كان في وقت من الأوقات معروفاً لدى الناس في مدينة إسطنبول الجميلة، يحيي الليالي والأمسيات كمغنٍ لموسيقى البلوز، ذلك النمط الموسيقى الذي انتشر في وقت ما، حيث تكشف الرواية عن هوية المدينة الثقافية، ونمط وأسلوب حياة الناس فيها، وكيف أن صخب الأمسيات ذلك ربما يجعل البعض يفكر في العزلة، أو ربما سيقودهم الأمر إلى الجنون، أو التفكير في الانتحار، كما فعل ذلك الشاب المغني المحبوب من قبل الناس، فعلى الرغم من كل تلك المشاعر الإيجابية التي كانت تحيط به، إلا أن قلبه المرهف الحساس جعل الحياة صعبة بالنسبة إليه، وربما كان فقدانه لذاكرته قدراً جميلاً، أو على الأقل، أفضل من الموت، إذ منحه ذلك الأمر فرصة أخرى للتأمل في الحياة، والأقدار، وقد نجح مؤلف العمل في صناعة بطل مؤثر، وجذاب، وقادر على نيل إعجاب القراء، ويتميز بشخصية مركّبة، وثرية، ومتعددة الوجوه، ويجد المتلقي نفسه متابعاً جيداً لهذه الشخصية بكل حواسه، خاصة بعد فقدانه للذاكرة، تلك الواقعة التي جعلت بوراتين في مواجهة ذاته، وحطمت مفهومه عن نفسه، ولعل سر جاذبية تلك الشخصية هو ذلك التشظي الذي عانته بسبب تلك المحنة التي ألمّت به، ذلك الشعور المرتبك، والتيه، وفقدان الإحساس بالوقت، وتلك البقع التي تتسلل من بقايا الذاكرة المحطمة لتجلب معها بعضاً من أحداث سريعة من الماضي.

  • مقولات

ولعل اللافت في هذا العمل السردي البديع، ذلك العنوان الذي اختير بعناية ليخدم حبكة الرواية «المتاهة»، وهو الاسم الذي يعمق فكرة الحكي عن رجل أصبح فجأة بلا ذاكرة، فهو بالفعل في متاهة كبيرة، يجاهد من أجل الخروج منها، ويصطحب كاتب الرواية معه بعض المقولات لكتّاب، وأصحاب تجارب وخبرات، من أجل تعميق فكرة الحيرة والعيش في ظل التوهان، مثل مقولة المؤلف الشهير خورخي لويس بورخيس، المقتبسة من كتابه «سبع ليالي»، والتي تقول: «ضع مرآتين الواحدة في مواجهة الأخرى، ستخلق لنفسك متاهة»، ولعل تلك المقولة هي التي ساعدت برهان سونميز، وألهمته صناعة تفاصيل هذه العمل السردي، الذي يحكي بشكل أكبر عن متاهة الإنسان، وكذلك لتعميق فكرة أن المرء هو الذي يصنع لنفسه الحيرة، وإلى جانب ذلك العنوان القوي والمعبر، فقد نجح الكاتب كذلك في استخدام لغة جذابة أقرب إلى لغة الفكر والفلسفة، مع قوة في الوصف وميل نحو تفسير الظواهر والأشياء بطريقة علمية، إضافة إلى البراعة في توظيف تقنية «الفلاش باك»، أو الارتداد في الزمن.

  • استهلال

وربما كان مصدر قوة الرواية، إلى جانب العنوان وبعض التقنيات السردية، هو تلك المقدمة، أو الاستهلال الكاشف عن الأجواء النفسية للبطل الذي يجد نفسه وقد استيقظ داخل المستشفى، ونقرأ من تلك الاستهلالية في الرواية: «الريح تهب من باب الشرفة المشرع، وتلاعب الستارة، مهما كان الموسم الآن، فإن طراوة الصباح تبعث الشعور بالانتعاش. رنين الساعة يرتفع مرافقاً لأصوات الصفارات، وأبواق السيارات، ذيل الستارة التولية يداعب السرير. بوراتين، يمد يده بعينين مغمضتين ليسكت المنبه، يده تتنقل فوق المنضدة الجانبية للسرير. يتوقف. يتريّث ثم يعاود البحث. يفتح عينيه بعد فشله في الوصول إلى الساعة، الفضاء خارج البيت يشع بحمرة الشروق، الغرفة شبه معتمة، وأثاثها غير واضح المعالم. أين هذه الغرفة؟»، لتبدأ تفاصيل الرواية في الإثارة والمتعة عقب هذا السؤال تحديداً: «أين هذه الغرفة؟»، فتلك هي اللحظة التي استيقظ فيها بطل الرواية من الغيبوبة بعد فشل حادثة الانتحار، ليبدأ منعطفاً جديداً في حياته.

اقتباسات

  • «غريب واحد يكفي لكل بيت».
  • «الطفل حديث الولادة، تبدو له غريبة كل أصوات العالم».
  • «ضاع في غياهب النسيان مع ذاكرة مفقودة».
  • «الإنسان جزء من الحياة حتى قبل ولادته».
  • «أعرف أسماء فلاسفة العصور القديمة، ولا أجد أثراً لنفسي في محفظتي».
  • «عند فقدان الذاكرة، تسقط سنوات من العمر».
  • «إن الكلمات لا تخرج وحدها، بل ومعانيها معها».
  • «أي منا وقع في النسيان، أنا أم البيت؟».
  • «أحياناً يصعب التمييز بين الخطأ والصواب».
  • «لا تقف تحت المطر كي لا تبتل».

دار روايات

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdchv2zd

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"