عادي
صدر في الشارقة

رواية «كسوف»... الإنسان يواجه العالم بألف وجه

14:40 مساء
قراءة 5 دقائق
جون بانفيل

الشارقة: علاء الدين محمود

حياة غريبة وجميلة تلك التي تشيدها رواية «كسوف»، للكاتب الأيرلندي جون بانفيل، الصادرة في نسختها العربية عن دار روايات، في طبعتها الأولى عام 2022، بترجمة: سلمان الجربوع، وتظل المتعة والدهشة حاضرتين وملازمتين للقارئ في هذا العمل السردي المميز، منذ الاستهلال وحتى النهاية، نسبة للمشهديات والصور الثرية والمتعددة التي يصنعها الكاتب، إضافة إلى الحبكة القوية، وتوظيف الشخصيات، والسخرية القاتمة، حيث يستخدم الكاتب عدداً من التقنيات غير المطروقة، إلى جانب طرح مواضيع فكرية، وفلسفية، والغوص العميق في دواخل النفس البشرية.

تسيطر أجواء الكآبة على كثير من منعطفات الرواية، وتمتلئ بالكثير من المفاجآت والقصص الجانبية التي هي بمثابة نهر يصب في نهر الحكاية الرئيسية، وتتميز بقوة التقاط التفاصيل الصغيرة والالتفات إلى جوانب غير مرئية في الحياة والمجتمع.

  • عوالم خفية

تتحدث الرواية في قصتها عن ألكسندر كليف، وهو ممثّل شهير، يلوذ ببيت طفولته هرباً من خزي انهياره الأليم على خشبة المسرح. وهناك، نكتشف رويداً رويداً، جوانب خفية في حياة هذا الرجل صاحب الشخصية المعقدة، والمركّبة، والذي هو نموذج للإنسان في العصر الحديث بكل أثقاله في هذا الوقت الذي يشهد غروب شمس العديد من القيم، وربما ذلك ما جعل المؤلف يطلق على روايته اسم «كسوف»؛ أي غياب ضوء الشمس، أو احتجابها وتواريها في لحظة معينة، فكثير من الأشياء تحتجب في هذا العمل، حيوات تتلاشى، بيت الطفولة يصبح مجرد ذكريات، حتى التفاصيل الجميلة التي كان يعيشها بطل الرواية تغيب بعيداً في الظلال، لكنه يعمل من أجل «استعادة النهار».

  • شاعرية

لعل أكثر ما يميز هذه القطعة السردية الرائعة الجمال، تلك اللغة الشاعرية الأنيقة التي تجعل من الرواية قصيدة طويلة، متعددة الأغراض كثيرة المعاني، محتشدة بالمجازات، والتشبيهات، والجمل البلاغية، والتعبيرات الجميلة الأنيقة، وإن كان الحزن فيها يحتل مكانة كبيرة، تلك المشاعر المصاحبة للإنسان في وقتنا الراهن، ولئن كان قدر بطل الرواية أن يكون ممثلاً ومؤدياً في المسرح، فإنه يمتلك الكثير من الوجوه والأدوار في الحياة، تماما كأي إنسان آخر له العديد من الأقنعة، والشخصيات، والوجوه، فقد استطاع بطل الحكاية من خلال عمله أن يجسد العديد من الشخصيات: الرجل المتضخم الذات، والإنسان المعذب، وذلك الحالم، بالتالي هو «كل البشر»، في مشاعرهم وشخصياتهم، المختلفة والمتباينة، وتقدم الرواية دروساً في كيفية مواجهة أثقال الحياة، والتعامل مع البشر وظروف العزلة والوحدة وغير ذلك من أشياء وقيم فرضها نمط العيش في وقتنا الراهن الذي تسود فيه أخلاق السوق والاستهلاك.

  • ملامح فارغة

وتقدم دار روايات إضاءة حول عوالم الرواية من خلال هذا المقطع الذي يتصدر العمل: «انجلى الموقف لي دفعة واحدة: على الأرض أسفل عتبة النافذة يرقد فرخ ميت. لا بد أنّه قد وقع من السقف، أو فشل في التحليق فهوى إلى الأرض وكسر عنقه. على نظرته غشاوة شبه زجاجيّة، وعلى ريشه شحوب. النورس، ولا ريب عندي في أنّه أحد الأبوين، فتح منقاره من جديد بتلك الطريقة الغريبة، بلا صوت. لعلّها كانت تهديداً، يحذّرني من أن أقترب، لكنّي أميل إلى الاعتقاد بأنّها أَمَارَةُ كرب شديد. حتى النوارس يجب أن يكون لديها تعابير ترح، أو فرح، يستطيع الرفقاء تمييزها. ربما ترى هي ملامحنا فارغة وغير معبّرة مثلما نرى نحن ملامحها. رجل مخدَّر ببأساء لا يمكن شرحها، على سبيل المثال، أنا واثق بأنّه لن يكون في نظره سوى غبيٍّ آخرَ بعينين ميتتين يحملق بلا رحمة إلى مشهدِ فقدٍ لا يُقَاس. الطائر كان ذكراً، أظنُّ؛ أجل، أظنُّه أباً. تركته ونزلت، مدفوعاً بهذه المصادفة، إلى البحر».

  • تأمل

الرواية تحرّض القارئ على التأمل في الحياة والبشر والوجود، والتعمق في فهم المعاني الكامنة وراء الأشياء،، إنها نظرة للحياة من وجهة نظر ممثل مسرحي، أيقن من خلال تجربته أن للشخص الواحد أكثر من حياة واحدة، وأن المرء في مقدوره أن يعود إلى أزمنة الطفولة، وعهد الصبا من خلال قوة الخيال، لأن الركون للتخيل ليس شيئاً معيباً، أو هروباً من الواقع القاسي بقدر ما هو جزء من مقاومته، فالإنسان في الأصل هو صاحب ملامح فارغة يملأها وقت يشاء، بقناع العبوس، أو الفرح، وهو لا يقبل على تلك العملية بمحض إرادته، بل إن الحياة في أحيان كثيرة هي التي تجبره على ارتداء هذا القناع، أو ذاك، لكن المرء بطبعه متمرد لا يركن لما لا يريد، بل يحرك كل قواه الكامنة والحية من أجل فعل المقاومة، وفي بعض الأحيان يلجأ للعزلة للتقوقع داخل نفسه، أو الانزواء في حيز مكاني ضيق بعيداً عن البشر تعبيراً عن الرفض، تلك هي لحظة «الكسوف»؛ أي التواري بعيدا.

  • حنين

تعج الرواية كذلك بمشاعر الحنين والشوق والالتفات إلى أمكنة قديمة، حيث يعود بطل الحكاية بذاكرته إلى ذلك المكان الذي لا يُنسى حيث بيت أمه، حينها تهيج في نفسه أوجاع الذكريات، ويظل مشدوداً بحبل سري نحو ذلك المنزل القديم، ويعبّر عن تلك المشاعر بدفق شعوري بديع، فيوض من الكلمات الشاعرية التي يلقيها في لحظات حوارية مع ذاته أو رفيقته، ونقرأ في هذا السياق المعبر عن شدة الشوق والحنين: «المنزل نفسه كان هو ما أعادني، أوفد إلىّ رسله السريين كي يستدعونني إلى الوطن»، فالعمل يكشف عن تفاصيل شخصية حالمة مرهقة شديدة الحساسية، إضافة إلى كونها وحيدة تواجه العالم من خلال أقنعتها المختلفة.

  • نثر

الرواية وجدت صدى كبيراً وواسعا ًمن قبل النقاد ومجتمع الأدب، كحال أعمال بانفيل الأخرى، حيث تبارى النقاد في تناولها، خاصة في ما يتعلق بلغتها الشاعرة التي ترتدي ثوب الأناقة القشيب، وربما ذلك ما دفع صحيفة «الغارديان» البريطانية إلى القول عن الرواية: «مع نثر كهذا، من يحتاج إلى حبكة»، كلمات تحمل الكثير من الدلالات حول هذه القطعة السردية، ولكن بطبيعة الحال فإن ذلك الوصف هو الآخر جاء من فرط الإعجاب بالرواية التي، رغم جماليات النثر الشعري، لكنها لم تتخلّ عن الحبكة المميزة التي صنعت تفاصيل ومنعطفات هذا العمل السردي الذي سيبقى كثيراً في ذاكرة القراء،، فلئن كان فضاء الحكاية المكاني يخص أيرلندا وتلك القرية التي جرت فيها الأحداث، لكن مواضيع العمل تنفتح على الإنسانية.

  • إضاءة

يعد الكاتب جون بانفيل، المولود في «ويكسفورد» في أيرلندا عام 1945، من أبرز الروائيين في المشهد العالمي في الوقت الراهن، إضافة إلى عمله صحفياً، ومسرحياً، وكاتب سيناريو، وهي اشتغالات وظفها بطريقة إبداعية في أعماله الأدبية، وكتب تحت اسم آخر هو بنيامين بلاك، وهو الاسم الأول الذي نشر عبره عدداً من الروايات، وله نحو 14 رواية، من بينها: «الشهادة»، و«المنبوذ»، و«البحر»، و«الضوء القديم»، وهو المرشّح الأيرلندي الأكثر بروزاً للفوز بجائزة نوبل للآداب. حصل على جائزة «مان بوكر»، و«فرانز كافكا»، وغيرها كثير. ولطالما قورنَت كتابات بانفيل بنصوص ألبير كامو، ودوستويفسكي.

اقتباسات

  • «كأن شخصاً يمشي بصمت إلى جانبي أو في داخلي، كان مألوفاً، هو آخر غيري».
  • «احتجاب خاطف للضياء كأن شيئاً قد هوى من أمام الشمس».
  • «هل تحسب أنك ستبرأ من خطب أصابك؟».
  • «يعقب الضحك البكاء».
  • «صرت لا أفهم أبسط الأشياء التي يقولها لي الناس، كأنهم يتحدثون بلغة أخرى».
  • «ما يميز ضخام البشر ليس العضلات بل الجوهر الهش».
  • «أستطيع أن أكون ساكناً حتى في قلب الفوضى».
  • «الحياة دائماً ما تفاجئك بمجرد أن تظن أنك حفظت دورك فيها».
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p9ryxen

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"