حتمية الجغرافيا

00:36 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

اختزلت التكنولوجيا الحديثة العالم، فهل تغيرت مفاهيم الجغرافيا بأبعادها المختلفة؟ يبدو في الظاهر أن ظاهرة شبكة الإنترنت وما صاحبها من حركة سفر ملحوظة وحراك بشري عابر للأوطان والقارات بفعل الهجرة وتوابعها المختلفة خلال العقدين الأخيرين، قد أصابت الجغرافيا التقليدية ببعض التحول أو الخلخلة، وهو ما يتفق مع ما بشرت به العولمة منذ عقود بأنها ستختزل المسافات وربما تغير في مفاهيم الحدود، وأن مصطلحات، مثل الدولة الوطنية ستكون من إرث الماضي، ولكن مع النظر في أحوال العالم المختلفة يتضح أن هذه الفرضية أو تلك التوقعات ليست صحيحة.

تتوزع الجغرافيا على أبعاد عدة، منها الجغرافيا السياسية، والاقتصادية، والثقافية، وحتى الأدبية. أدى التطور في التقنية والأسلحة الحديثة إلى فكرة مفادها أن قوانين الجغرافيا السياسية ليست «حتمية»، أي إن التقنية بإمكانها هزيمة عوامل الطبيعة ومحددات المكان الجغرافية، فالسلاح الحديث يستطيع تجاوز عوائق طبيعية، مثل الجبال والهضاب والأنهار، وهي فكرة يراها المحلل البريطاني تيم مارشال في كتابه «الجغرافيا السياسية» خاطئة تماماً، فتلك العوامل مصحوبة حتى بتقلبات المناخ لا تزال تمتلك الكلمة الفصل في أي صراع عسكري، ويضرب العديد من الأمثلة التي تشمل حالات معاصرة، مثل الحرب الأمريكية في أفغانستان، فعاصفة كبرى ستعوق عملية عسكرية ضخمة، وسلسلة جبال تستطيع أن تمنع النزاع بين جارين.

الوضع نفسه ينطبق على أنواع الجغرافيا الأخرى، فالإنترنت بوعوده المبشرة في التقريب بين البشر، لم يفعل أكثر من زيادة ترسيخ الصور الذهنية التي رسمها الاستعمار وتوابعه العلمية عن مختلف أمم العالم، فهناك أفكار استشراقية ورؤى عنصرية يتم تداولها على مختلف مواقع الشبكة، وربما يكون العكس هو الصحيح، فبينما كانت هذه الصور والأفكار متداولة في الماضي على نطاق نخبوي باتت متاحة للجماهير وفي الفضاء العام، ما يرسخ سوء التفاهم بين البشر، وينمي النعرات العرقية، ويضخم من رؤية كل طرف لسلبيات الآخر.

في أحد كتبه تحدث الناقد الإيطالي إمبرتو إيكو عن الجغرافيا الأدبية، فأعمال فيكتور هوغو وتشارلز ديكنز رسمت صوراً خالدة لمدن، مثل باريس ولندن، والنماذج العالمية عديدة، بحيث كتب بعضهم عن أطالس أدبية تتعلق بالكثير من المدن التي خلدت بعض الروايات معالمها وطبيعة تكويناتها الاجتماعية. الآن هل يمكن أن لفيديوهات المؤثرين في مواقع التواصل المختلفة أن ترسم معالم مدينة ما؟ أعتقد أن هذا لم يحدث، ربما أسهمت تلك الفيديوهات والمواد المصورة في زيادة أعداد زوار المدينة، ولكن روح الأمكنة وطبيعتها وتاريخها وإحساس البشر بها وتفاعلهم معها مهمة منوطة بالأدب وحده، والتي فشلت التكنولوجيا حتى الآن في القيام بها أو حتى تقليدها.

الخرائط الاقتصادية بدورها لم تتغير، فالتكتلات الكبرى لا تزال كما هي، بل العكس هو ما حدث أيضاً، فدول الشمال الغنية هي نفسها من أسست الشركات التكنولوجية العملاقة، وحولتها إلى أداة للهيمنة على الأطراف الأفقر.

إن إحساسنا بأن خرائط العالم تتغير هو إحساس وهمي إلى حد كبير، فقوانين الجغرافيا لا تزال «حتمية» حتى إشعار آخر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/pv6z5du9

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"