عادي

جذورنـــا العميقـــة تضـــيء الـــدرب

00:20 صباحا
قراءة 6 دقائق
1

القاهرة: مدحت صفوت
يعتبر التراث الشعبي مرآة عاكسة لحضارة الشعوب، وتاريخها، وهو كنز لا يفنى، يحمل في طيّاته هوية الأمة، وقيمها، ومعتقداتها. وعربياً، شّكل على مر العصور ركيزة أساسية من ركائز هويتها الثقافية، إذ تجسد في مختلف أشكال التعبير الفني، والأدبي، والمعماري، والموسيقي، لكن مع التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم العربي في العصر الحديث، برزت تساؤلات حول مدى اهتمام العرب المعاصرين بهذا التراث، وهل لا يزال يحظى بالقدر نفسه من الاهتمام الذي كان عليه في الماضي؟
بداية، يمكن القول إن للتراث الشعبي أهمية كبيرة في الثقافة العربية، إذ يحمل في طيّاته الذاكرة الجماعية للأمة، ويعكس تفاعلها مع البيئة المحيطة بها، كما أنه يحمل منظومة قيمية وأخلاقية راسخة، تسهم في تشكيل سلوك الأفراد وتوجيههم، فضلًا عن أنه يوفر فهماً أعمق للتاريخ العربي، ويبرز دور الأجداد في بناء الحضارة العربية الإسلامية، وأخيراً يمثل مصدراً للإلهام والإبداع الفني، حيث يستلهم منه الفنانون والمبدعون أفكارهم، وأعمالهم.
أشكال وتحدّيات
تتعدد أشكال التعبير عن التراث الشعبي في العالم العربي، إذ يشمل الحكايات الشعبية، والأمثال، والألغاز، والأشعار الشعبية التي تعكس حياة الناس، وعاداتهم، وتقاليدهم، والموسيقى الشعبية التي تتميز بتنوّعها، وغناها، حيث تختلف من منطقة إلى أخرى، وتستخدم آلات موسيقية تقليدية، في ما تتميز العمارة الشعبية العربية ببساطتها، وارتباطها بالبيئة المحيطة، وتستخدم مواد بناء محلية، بينما تشتهر الدول العربية بتنوع الحرف اليدوية التي تعكس مهارة صانعيها، وإبداعهم.
ومع تعدد الأشكال والأنماط التي تخص التراث الشعبي، تكثر أيضاً التحدّيات التي تواجه الموروث الشعبي في العالم العربي، أولها التحديث والتغريب، إذ أدّت التغيرات السريعة التي يشهدها العالم العربي إلى تراجع الاهتمام بالتراث الشعبي، وظهور ثقافة الاستهلاك، والتقليد الأعمى للحضارات الأخرى، كما أدّى التوسع العمراني إلى تدمير العديد من المباني التراثية، والحرف التقليدية، بجانب انتشار وسائل الإعلام والتقنيات الحديثة، وما انتهت إليه من تغيّر أنماط الحياة، والعادات، والتقاليد.
جهود متواصلة
ومع التحديات السابقة، تتنوع جهود الحفاظ على الموروث الشعبي في العالم العربي، وتبذل العديد من المؤسسات الثقافية، الحكومية والخاصة، جهوداً كبيرة في هذا المضار، من خلال تنظيم المعارض، والمؤتمرات، والندوات، وإصدار الكتب والدوريات المتخصصة، كما تلعب المنظمات الأهلية دوراً مهماً في توعية المجتمع بأهمية التراث، ودعم الحرفيين، والصناع التقليديين. ويأتي بجانب ما سبق المبادرات الفردية، ويسهم العديد من الأفراد في الحفاظ على موروثهم من خلال اهتمامهم بالفنون، والحرف التقليدية، وتدوين الحكايات الشعبية، والأغاني.
ولا يمكن القول إن العرب توقفوا تماماً عن الاهتمام بالتراث الشعبي، فهناك العديد من الجهود المبذولة للحفاظ عليه، وتطويره. لكن من الواضح أن هذا الاهتمام يتفاوت من دولة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر. كما أن طبيعة هذا الاهتمام تتغير مع تغير الظروف، والأولويات.
الآفة الكبرى
ويتعرض الاهتمام بالموروث في بعض البلدان العربية إلى التراجع، حدّ الانعدام، جرّاء ما تشهد من حروب وصراعات أهلية، وهي الآفة التي تعتبر أكبر التحديات التي تواجه جهود الحفاظ على الموروث، ففي ظل الأوضاع اللاإنسانية في عدد من البلدان، تركز الحكومات والمنظمات الدولية على توفير الاحتياجات الأساسية للمتضررين، ما يؤدي إلى نقص التمويل لمشاريع الحفاظ على التراث، فضلاً عن تدهور البنية التحتية للمؤسسات الثقافية، ما صعّب عملية الحفاظ على الموروث.
طرائق الاستثمار
على صعيد آخر، لا تزال بعض الدول تكرس المشروعات القومية للاعتناء بالموروث الشعبي، بخاصة الدول التي تنعم بالاستقرار الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي، لكن قبيل استعراض بعض التجارب العربية، يستوجب هنا أن نشير إلى طرائق الحفاظ على الموروث، وهي كثيرة، أولاها تسجيل التراث الشفوي، من القصص والحكايات والأغاني الشعبية، فضلاً عن الحرف اليدوية والتقاليد الاجتماعية. ثم إنشاء المتاحف المتخصصة لعرض المقتنيات التراثية، وأخيراً، الرقمنة للحفاظ على التسجيلات والتدوينات من التلف والضياع.
وبعد ما سبق من طرائق، تأتي عملية الاستثمار في الموروث من خلال إدراجه في المناهج الدراسية، وتعليم الطلاب تاريخهم، وثقافتهم، كذلك تنظيم الورش والندوات حول التراث الشعبي لتوعية الجمهور بأهميته، ولا ينفصل ذلك عن استخدام وسائل الإعلام المختلفة لنشر الوعي بقيمة الموروث.
ولا يمكن إغفال تقديم الدعم المالي والحوافز للحرفيين، وتدريب الشباب على الحرف اليدوية التقليدية، وتوفير منصات لعرض المنتجات والتسويق لها من خلال الاحتفال بالمناسبات التقليدية، وتنظيم الفعاليات الثقافية التي تعرض التراث الشعبي، مثل العروض الفنية، والموسيقية.
ومع استعراض التجارب العربية، نشير إلى المملكة العربية السعودية، إذ عملت هيئة التراث، برئاسة الدكتور جاسر سليمان الحربش، على مشاريع استراتيجية مرتبطة بحماية التراث الوطني، أبرزها المخرجات الرئيسة لسجل التراث الوطني الرقمي للتراث العمراني في المملكة، واستكمال إجراءات تأسيس «الشركة السعودية للحرف والصناعات اليدوية»، وتوقيع اتفاقية تعاون مع هيئة تطوير المنطقة الشرقية للارتقاء بالتراث المادي، وغير المادي.
وتمكنت السعودية من الحفاظ على التراث الإنساني الثقافي المادي، وغير المادي، من تسجيل 11 عنصراً ثقافياً، محلياً وعربياً، في قائمة التراث غير المادي، لتسليط الضوء على قيمتها التاريخية، ورمزيتها الثقافية؛ بدأ ذلك عام 2015 عندما أدرجت «المجالس» ضمن قائمة التراث العالمي غير المادي، كمكان ثقافي، ولأداء الواجبات الاجتماعية، ومن ثَمّ إدراج القهوة العربية رمزاً للكرم في العام نفسه، وعُدّت أحد التقاليد المألوفة عربياً، في حسن الضيافة والوفادة، وإكرام الضيف.
وفي مصر، وطبقاً لتفاصيل «التقييم الوطني لحالة حفظ التراث الثقافي غير المادي» الصادر عن منظمة اليونيسكو، فثمة جهود بارزة في مجال صون الموروث، وتشكل المنظمات غير الحكومية 20% من العدد الإجمالي للمؤسسات الفاعلة، ويتمثل هدفها الرئيسي في إحياء اهتمام الجمهور بالتراث الشعبي. وتشمل هذه المنظمات الجمعيات المعنية بجمع التراث غير المادي، وحفظه، والمتاحف المعنية بحماية المقتنيات التراثية، ومراكز التدريب المعنية بحفظ الحرف التقليدية، وحمايتها.
ومع قلّة الإمكانات المادية، تؤدي المؤسسات دوراً حيوياً في مجال الحفظ، والتوثيق، لكنها وبحسب اليونيسكو «لا تزال تحتاج إلى تفعيل دورها الإعلامي لتعزيز عملها، واسترعاء انتباه الناس إلى الأنشطة التعليمية والثقافية التي تضطلع بها. ومع أن معظم المؤسسات تتعاون مع مهنيين في مجال التراث المادي وغير المادي، فإن تواصلها مع الجمهور لا يزال يقتصر على المناسبات الثقافية والأحداث الاعتيادية».
مؤسسات
واحدة من المؤسسات الرسمية «أطلس المأثورات الشعبية المصرية» الذي يضم جميع أنواع المأثورات الشعبية المصرية، بمختلف أشكالها، وفقاً لأدلة علمية تُجمع ميدانياً. وتشرف عليه لجنة مؤلفة من أساتذة في التراث الشعبي بمصر. ويأتي معه الأرشيف القومي للمأثورات الشعبية، الذي يعمل على جمع المأثورات الشعبية من مختلف المحافظات المصرية من خلال موظفين معنيين بالجمع الميداني. ويضطلع فريق من الأخصائيين بمهمة استعراض المأثورات التي يتم جمعها وتوثيقها، بغية حفظها في المحفوظات الرقمية للمركز.
أما المبادرات الأهلية والمؤسسات غير الحكومية، فبرزت من قبل الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية، ونفذت عدداً من المشروعات الكبرى قبل أن يتراجع نشاطها في السنوات الأخيرة، بخاصة بعد وفاة أغلب مؤسسيها، أبرزهم أستاذ الأدب الشعبي أحمد مرسي. بينما برز أخيراً المركز المصري للثقافة والفنون «مكان»، كمقر ثقافي فني يقدم عروضاً للموسيقى، والأغاني، والرقصات الشعبية، ويستهدف صون الموسيقى والأغاني الشعبية، وتوثيقها وحمايتها من خطر الاندثار من خلال جمعها وتسجيلها على وسائط حديثة لتخزين البيانات، وتتكون محفوظات المركز مما يزيد على عشرين تيرابايت من تسجيلات الفيديو والتسجيلات السمعية للموسيقى والأغاني المصرية. كما يستهدف «مكان» تعريف الجمهور بهذا التراث من خلال عروض حية، وتنظيم حلقات عمل يلتقي فيها الموسيقيون، ويتبادلون خبراتهم.
وتتجلى خبرات المركز، وتعاونه مع المجتمعات المحلية، والجماعات، والممارسين المهنيين المعنيين بالتراث الثقافي غير المادي، في مشاركته في حفظ الذاكرة الثقافية المصرية عبر البحوث وأنشطة التوثيق المتعلقة بالموسيقى التقليدية، بوصفها أحد عناصر التراث الثقافي غير المادي، وفي دعم المركز للمؤرخين، والموسيقيين، والباحثين المعنيين بالفن الشعبي.
«ألعابنا تراثنا»
منذ 3 سنوات، وفي أقصى جنوب مصر، أسس عدد من المهتمين بالفوولكلور مبادرة شعبية للحفاظ على التراث والأغاني الشعبية، وتعليمه للنشء تحت مسمى «مندرة التراث»، تُعنى بالأساس بتوثيق الألعاب الشعبية، وتسعى المبادرة إلى تحقيق هدفين رئيسيين، هما الحفاظ على التراث من الاندثار، كذلك تعليم تلك الألعاب والأغاني التراثية والوطنية للصغار في جو مناسب يشبه المندرة التي كانت تجتمع فيها العائلات، ولا تزال، في قرى صعيد مصر للتسامر والحكي.
وبذكر الألعاب الشعبية، يحضر هنا جهد الباحث والشاعر أحمد توفيق، الذي يخلص منذ نحو 25 سنة، لجمع الموروث الشعبي في مصر، وهو مغرم بالموسوعات، والعمل الموسوعي، والتوثيقي الذي يحتاج إلى سفر وترحال في ربوع مصر كافة، لينتج «كتاب الحواديت.. موسوعة الحكايات الشعبية في مصر»، في أربعة أجزاء، ومن بعدها «موسوعة الألعاب الشعبية»، التي تضم الألعاب الشعبية مزودة بالشرح والتوضيح بالرسومات والصور منها.

ثروة قومية

التراث الشعبي ثروة قومية يجب الحفاظ عليها وتطويرها، ويمثل هوية الأمة، وذاكرتها الجماعية. وعلى الرغم من التحديات التي تواجه التراث الشعبي في العالم العربي، إلا أن هناك العديد من الجهود المبذولة للحفاظ عليه. ويتطلب الأمر تضافر جهود الحكومات والمؤسسات الثقافية والمنظمات الأهلية والأفراد، من خلال توعية المجتمع بأهمية التراث الشعبي، ودعم المبدعين والحرفيين، وتوفير البنية التحتية اللازمة للحفاظ على التراث المادي وغير المادي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/375mhbcs

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"