الخرائط تكذب أيضاً

03:38 صباحا
قراءة دقيقتين
يحيى زكي

فلسطين لا توجد على خرائط جوجل، أما موقع «بي بي سي» باللغة العربية فمصاب ببلبلة تجاه هذه المسألة، ذلك ما يخرج به متابع تقرير الموقع المعنون على صفحته الرئيسية ب«خرائط عربية يغيرها جوجل بحسب موقعك»، وعند الدخول إلى صفحة التقرير نجد أمامنا عنواناً مختلفاً: «هل حذف جوجل فلسطين من خرائطه بالفعل؟»، يبدأ التقرير بالإشارة إلى غضب الآلاف؛ لقيام جوجل بحذف فلسطين من خرائطه، ولكنه يؤكد أن فلسطين لم تكن يوماً ضمن هذه الخرائط.
في كتابه الموسوعي «تاريخ العالم في 12 خريطة»، يصل جيري بروتون إلى حقيقة ربما تبدو للبعض صادمة، وهي استحالة رسم خريطة مماثلة للعالم، نتيجة بروتون يعرفها كل عاشق لتاريخ الجغرافيا، فالبشر لم ينتجوا في أي يوم خريطة مطابقة للموجود على الأرض بالفعل، فالخرائط في النهاية ليست حيادية، ولا تعبر عن الواقع بأمانة، هي إعادة رسم رؤية الذهن لهذا الواقع، وإخراج ما في العقل من معتقدات سياسية وفكرية.
الأغلبية الساحقة من البشر يثقون بالخرائط، بل يعتبرونها نتاج علم موضوعي نزيه، ولكن ليس هناك من خريطة إلا وهي مؤدلجة حتى النخاع. ينطبق هذا الكلام على خرائط العصور الوسطى، كما يصدق على خرائط جوجل، كانت خرائط العصور المظلمة في أوروبا مزدانة برسوم دينية تشير أحياناً إلى الآخرين بوصفهم برابرة، ومركز الخريطة يتجه نحو القدس، أما الخرائط الصينية فكانت تحتفي بإمبراطورية السماء، والمواقع التي لا وجود لها على الخريطة، لا وجود لها على الأرض بالنسبة للجمهور الذي تستهدفه.
ولا يزال الوضع كما هو عليه، وبرغم الثورة التكنولوجية والتخمة المعلوماتية، وبرغم تلك القرية الصغيرة المسماة بالعالم، فإن شركة جوجل لم تنسَ أنها أمريكية، وفلسطين لا توجد في الخرائط الأمريكية، وفي الحقيقة نحن من نعاني من هشاشة الذاكرة؛ لأننا ننسى دوماً هذه البديهيات.
الأكثر إثارة في تقرير ال«بي بي سي»، أن شركة جوجل تمارس الانتهازية في ما يتعلق بأماكن أخرى في إفريقيا مثلاً. جوجل لم تفعل ذلك في الحالة الفلسطينية، ففي أي مكان في العالم العربي عندما نكتب فلسطين تحيلنا الخرائط إلى موقع جغرافي يتوسطه اسم «إسرائيل».
لماذا لم تمارس جوجل انتهازية مع العرب في ما يتعلق بفلسطين؟ سؤال يخرج من رحم راهن يتقاطع فيه السياسي بالفكري، لكن المؤسف أن تأمله يذكرنا بظلال قروسطية بغيضة عندما كان نفي الآخر يدور في الذهن أولاً، ظلال ذكرتنا بها شركة تدعي الحيادية والعمل من أجل البشر جميعاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"