الإرادة العامة في العالم العربي

02:37 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو


إن تجاهل التحولات التي طرأت على الإرادة العامة من شأنه أن يغلق منافذ التحولات الآمنة، ويفتح الباب أمام تصدعات كبيرة في البنى المجتمعية.

يغيب مصطلح «الإرادة العامة» في الحياة السياسية داخل بلدان العالم العربي؛ إذ إن هذا المصطلح السياسي الاجتماعي الذي يعد مصطلحاً دستورياً بامتياز، غاب على الدوام لمصلحة تعبيرات أخرى تمثل أهداف الأنظمة السياسية في مرحلة بعينها، مع أن الغايات الرئيسية لأي نظام حكم ينبغي أن تكون مشتقة من الإرادة العامة، حتى تكون أهدافاً مطابقة مع احتياجات المجتمع.

استخدم الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712 1778) مصطلح الإرادة العامة للتعبير عن «مصالح الجماعة وقيمها الأساسية المشتركة»، وأصبح هذا المصطلح أساسياً في بناء العقد الاجتماعي وكتابة الدساتير، حيث ينبغي أن تعكس الدساتير مصالح وقيم الشعب الذي تعبر عنه، فالدستور وثيقة توافقات مواطني ومواطنات أمة من الأمم، ويشكّل إطاراً جامعاً لأهم المشتركات في ما بينها، ولا بد له لكي يكون شرعياً أن يضمن مصالح مختلف الفئات الاجتماعية.

يأخذ مصطلح الإرادة العامة في الحسبان، أن المجتمع هو كل أكبر من جميع أجزائه؛ أي أنه أكبر وأهم من حيث المفهوم والقيمة من مفهوم الجماعة، لكن هذا لا ينفي؛ بل يؤكد ضرورة آليات تمثيل الجماعات في المجتمع؛ إذ لا يمكن لأحد ما أن يجزم بماهية «مصالح المجتمع وقيمه العامة»، فالمجتمع ليس وحدة صماء؛ بل طبقات وميول وانتماءات ومصالح متناقضة، وهذا التنوع في التباينات الاجتماعية من شأنه أن يطرح سؤال التباين في المصالح والقيم، فالاستقرار الاجتماعي بوصفه غاية عليا لا يمكن تحقيقه من دون تحقيق منصف لمصالح الجماعات في المجتمع.

إن السياق الذي طرح فيه روسو مصطلح «الإرادة العامة»، هو سياق تطور تاريخي محدد بعملية التنوير الأوروبية، بعد أطروحات تأسيسية عديدة ناقشت العلاقات القائمة بين الحاكم والمحكوم، ووضعت الشعب مصدراً للقيم في مواجهة الاستبدادين الديني والسياسي.

وقد تحول هذا المفهوم إلى مرجع ملهم للعديد من الأطروحات حول الحقوق العامة التي تناولها مفكرون كثر، كما أصبح أساسياً في تحديد أسس كتابة الدستور، بوصفه الوثيقة العليا التي تشتق منها القوانين، وغايتها تحقيق المصالح العامة، إضافة إلى مصالح الأفراد.

سيأخذ هذا المصطلح مكانته في إطار المجتمع السياسي، فالحياة السياسية الديمقراطية تقوم على الشرعية التي تقدمها لها الإرادة العامة، حيث تقوم المؤسسات الحزبية والنقابية بطرح مشكلات وطموحات فئاتها، والتي تمثل كل منها جزءاً لا يتجزأ من مصالح المجتمع. وبالتالي، فإن الإرادة العامة ذاتها تخضع لعدد من التحولات، نتيجة التطورات التي تطال البنى المجتمعية والاقتصادية، ففي مناخ الحريات يكون بالإمكان التعبير عن مصالح الفئات المختلفة، والدفاع عنها بطرق شرعية، وتكون مهمة مؤسسات الدولة حماية مناخ الحريات؛ أي حماية المناخ الذي يسمح للفئات الاجتماعية بأن تعبر عن مصالحها.

إن مجمل الحياة السياسية في معظم بلدان العالم العربي ولأسباب عديدة بقيت أسيرة حالة الجمود، ولم تشهد حدوث تحولات مهمة في البنى القانونية والتنفيذية التي تسمح للفئات المجتمعية على اختلاف تبايناتها في المصالح، أن تعبر عن نفسها، بحيث يمكن بناء تصور واضح عن الإرادة العامة التي لا يمكن إدراكها من دون وجود حريات تعبير مصونة وفق القانون.

إن ديمومة الحال على ما هو قائم، أمر مناقض لطبيعة الحياة المجتمعية والسياسية، وهذه القاعدة الذهبية في فهم التحولات التاريخية، والأخذ بها، يجعلان من إدراك التغيرات في المصالح والقيم من قبل النخب أمراً مهماً لإعادة بناء أسس الشرعية في الحكم، لضمان استقرار اجتماعي حقيقي، وهو ما يضع مسؤولية كبيرة على عاتق النخب صانعة القرار، والتي تمتلك الإمكانات والأدوات الأهم في عملية بناء حياة سياسية واجتماعية، تأخذ في الحسبان التحولات التي جرت في مستويات عديدة.

نحن هنا أمام عائق بنيوي، وهو أن كثيراً من الفئات الاجتماعية، منذ عقود، لم تنخرط في التعبير عن مصالحها، كما أن السلطات التنفيذية ما تزال تجد أن أي تغيير في طبيعة التعبيرات الاجتماعية والسياسية القائمة، قد يفقدها كثيراً من نفوذها ومصالحها، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال معاندة منطق التطور التاريخي، وبالتالي، فإن تجاهل التحولات التي طرأت على الإرادة العامة من شأنه أن يغلق منافذ التحولات الآمنة، ويفتح الباب أمام تصدعات كبيرة في البنى المجتمعية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"