تصاعد للنزعة الانكفائية الأمريكية

02:36 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

يبدو أن لسعة «كورونا» ردعت هذا المنحنى الإمبراطوري في السياسة الأمريكية، ودفعت الإدارة الحاكمة إلى نهج تدريجي لسياسة الانكفاء على الذات.

من المرجح أن تشهد النزعة الانكفائية الأمريكية مداها ومنحاها التصاعدي، بعد العاصفة الهوجاء لجائحة كورونا، على ما تشي بذلك السياسات الرسمية الأمريكية أثناء أزمة كورونا، الجانحة نحو تبديل الأولويات تبديلاً ملحوظاً، عن طريق التشديد على المصالح القومية في الداخل الأمريكي بما هو بؤرتها الأساس، وذلك بعد ردح من الزمن طويل وضعت فيه السياسات الأمريكية العالم كافة مسرحاً لها وميداناً حيوياً لمصالحها، وانساقت وراء فكرة التدخل المباشر فيه بل في تفاصيل شؤونه سبيلاً إلى حماية مصالحها وتعظيمها.

ويبدو أن لسعة كورونا ردعت هذا المنحنى الإمبراطوري في السياسة الأمريكية، ودفعت الإدارة الحاكمة إلى نهج تدريجي لسياسة الانكفاء على الذات.

ليست النزعة الانكفائية هذه جديدة في سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، ولا هي تربط حصراً بإدارة دونالد ترامب، وإنما ابتدأ التعبير عنها أول ما ابتدأ، في عهد باراك أوباما. لقد كان ذلك بمناسبة سحب القوات الأمريكية من ساحات الحروب في العالم؛ العراق أولاً، ثم فتح التفاوض للانسحاب من أفغانستان، وتأكيد في غير ما مناسبة أن أمريكا لن تخوض حروباً خارج حدودها. ولم يكن ذلك الانكفاء عن الحروب في الخارج عادياً؛ بل آذن بتحول كبير في الاستراتيجيات الدولية للولايات المتحدة، وأتى يمثل نقضاً للسياسات المغامرة التي نهجها تيار المحافظين الجدد ونخبته الحاكمة في عهد جورج بوش الابن، وحكماً بإدانتها في ما جرته على أمريكا من باهظ الأثمان: في أرواح الآلاف من جنودها، وسلامة أبدان عشرات الآلاف من الجنود المعطوبين، وفي اقتصادها الذي انشرخ بنيانه في الأزمة المالية عام 2008، كما في هيبة أمريكا في العالم التي تلوثت بالحروب وجرائم انتهاك حقوق الإنسان في معتقل أبو غريب (في العراق) وفي معسكر جوانتانامو؛ الأمر الذي طعن في مصداقيتها كدولة عظمى.

على أن ما بدأه أوباما جزئياً سيستأنفه ترامب على نطاقات أوسع في عهده هذا. وإذا كانت إدارة أوباما تغيّت من الانسحاب من الحروب تصحيحاً لمسار سياسي انتحاري، وترميماً لشروخ في صورة أمريكا على الصعيد الكوني، من أجل الاستمرار في حماية مصالحها في العالم بعد أن تهددت بالأذى من سياسة الحروب، فإن انسحابية ترامب بدت شاملة ومتتالية الحلقات: من الاتفاقيات العسكرية الدولية (النووية والصاروخية) مع روسيا، ومن الاتفاقات التجارية الدولية (مع الصين خاصة)، ثم من المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة (اليونسكو، المنظمة العالمية للصحة)، ناهيك عن إقفال حدود أمريكا مع المكسيك، وتغيير اتفاقية «النافتا» لدول شمال أمريكا باتفاقية تجارة جديدة (USMCA).

أما الوجه الآخر للانكفائية الأمريكية في عهد ترامب، فهو إساءته العلاقة بحلفائه في الاتحاد الأوروبي، وتكثيفه الضغط على الاتحاد، سواء بتشجيعه بريطانيا على الانسحاب منه أو بضغطه على الأوروبيين لمنعهم من تصحيح العلاقات الأوروبية الروسية، أو من مراجعة سياسة العقوبات ضد روسيا التي ألحقت أضراراً بمصالحهم، أو بالضغط على فكرة الأمن الأوروبي المستقل، وحمل دول أوروبا على التزام إطار الحلف الأطلسي وزيادة مساهمتها المالية في ميزانيته، ناهيك عن توتيره المستمر للعلاقات مع أكبر دولتين في الاتحاد (ألمانيا وفرنسا)... هكذا لم تعد الولايات المتحدة تلحظ في سياساتها ما كانت تسميه، في ما مضى، مصالح الغرب جملة؛ بل انتهت إلى الدفاع الحصري عن المصالح القومية الأمريكية حتى وإن اصطدمت بمصالح الغرب! وما من شك في أن أزمة الوباء الجارية لن تُخرج السياسة الأمريكية من انكفائيتها التي أوغلت فيها، بقدر ما ستسرع من وتائرها وتغذي منزعها أكثر.

وهذا الاحتمال لا يُرجحه أداؤها تجاه الوباء فحسب، وهو أداء منغلق على النفس ولم يتوسل أياً من الأطر والأدوات الدولية حتى اللحظة، وإنما يرجحه أن الولايات المتحدة ستعيش لفترة قادمة أسيرة مشكلتين داخليتين لن تتركا للبيت الأبيض كبير مجال أمام سياسة دولية فاعلة ونشطة، أولاهما الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الإغلاق الذي فرضته جائحة كورونا، والتي ستأخذ إدارتها جهداً كبيراً ومعالجتها وقتاً طويلاً منها. وثانيتهما ما بدأ يدب من خلافات حول السلطات الدستورية للرئيس وحكام الولايات، بمناسبة إدارة الطرفين لأزمة الوباء، وهو خلاف لن يتوقف عند حدود التنازع على الصلاحيات في إدارة الشأن الصحي؛ لأن من ذيوله النزاع على السلطة بين المركز الفيدرالي وولايات لها الوضع الاعتباري للدول.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"