بعد «كورونا».. انتعاشة للدولة

03:01 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

الدولة هي أعظم اختراع إنساني في التاريخ؛ وبه دشنت الإنسانية مسيرة البناء والتقدم.

لن تمر جائحة كورونا ويطويها النسيان، حتى تكون تجربتها المريرة قد وضعت، مجدداً، الأساسات والمداميك لقيامة جديدة للدولة من تحت الأنقاض. لنتذكّر أن عاصفة الوباء الهوجاء هبّت في الوقت عينه الذي كان فيه خطاب «النهايات» قد قطع شوطاً طويلاً في «التبشير» بنهاياته: نهاية الدولة، نهاية المجتمع، نهاية السيادة، نهاية الأيديولوجيا ...إلخ. كل شيء في ذلك الخطاب كان برسم التشييع إلى دار البقاء، لكن من غير أن يُفصح الخطاب ذاك- ولو مرة- عمّا سيكونه العالم بعد زوال ما «بشّر» هو بزواله. وما إن داهمت كورونا العالم، حتى بدا وكأن الإنسانية جمعاء تلوذ بما وقع «التبشير» بنهايته: تعتصم بحبل المجتمع والجماعة، تلوذ بالدولة، تتمسك بالسيادة، تنكفئ إلى هوياتها القومية. هكذا تتبخّر- بالموازاة- عشرات الدعوات إلى توديع يقينياتنا ومألوفاتنا من الأفكار والمؤسسات والكيانات.

والحق أن كيان الدولة كان قد بدأ يضمحل، قبل هبوب عاصفة الوباء، ويدب إليه الكثير من الوهن بعد تجربة مريرة من الانكفاء، مرت بها الدولة، فرضها فشو أحكام العولمة التي زحفَت، وقلصت من مفعولية أحكام الدول الوطنية ومنظوماتها القانونية والتشريعية. بات على الدولة، مع الزمن وسريان مفعول عولمة الهيمنة، أن تُخضِع نفسها لأحكامها وأن تحُد، بالتالي، من ممارسة وَلايتها الحصرية ضمن نطاق حدودها الجغرافية السياسية. ولم يكن المسلك هذا اختياراً منها؛ بل أتى اضطرارياً وفي سياق مرغمة حُملت عليها منذ ابتداء استباحة سيادتها، في وجوهها كافة: السياسية- القانونية، والاقتصادية، والتجارية، والمالية، ثم الإعلامية والمعلوماتية. وقد أوحت هذه الأوضاع، إلى مَن يبغون للدولة الوطنية انحساراً (من الناطقين بلسان العولمة ومن نشطاء «المجتمع المدني»)، بأن هذه الدولة آيلة، فعلاً، إلى زوال وأنها تقطع الشوط الأخير من مسار كينونتها.

ما إن بدأ الوباء يفشو ويحصد ضحاياه، حتى شرعت الدولة الوطنية في استعادة عافيتها، تدريجياً، والانتهاض من رقدتها المديدة لتباشر مسؤوليتها في حماية المجتمع من غائلة الخطر الذي يفتك به. وفي كل يوميات جائحة كورونا ووقائعها المأساوية، لم يكن على مسرح الأحداث من بطل سوى الدولة؛ فهي التي هندست برنامج المكافحة الطبية والاجتماعية للوباء؛ بتسخيرها مراكزها الاستشفائية ومختبراتها العلمية للفحوص والعلاج؛ وتعبئتها مواردها المالية والاقتصادية لدعم الفئات الفقيرة في مواجهة آثاره الاجتماعية؛ وتجنيد مؤسساتها الإدارية والأمنية لإدارة عملية الحجر والطوارئ الصحية ومراقبة الالتزام العمومي بأحكامها. ولولا قيام الدولة بما قامت به، لكانت الجائحة أخذت من ضحاياها ما لا يمكن عده وحصره. والحق أن ما صرفته الدولة من جهد، وما أدته من وظائف وأَتته من إنجاز في شهور الجائحة يعادل، في القيمة كما في الكثافة، ما صرفته وأدته وأنجزته في سنوات بكاملها.

وما من شك يخامرنا في أن هذه الانتعاشة، التي شهدت عليها الدولة، ليست عارضة وموقوتة أو ممّا يمكن أن يخبو وتنطفئ جذوته ما إن ترتفع أسبابه؛ ذلك أن التمرين المديد الذي خضعت له قوى الدولة وأجهزتها، في اختبار جائحة الوباء، سيعود عليها بأجزل العوائد والمنافع؛ سيقوي كيانها ويبعث فيه الحيوية والفاعلية؛ وسيرفع من معدل رصيدها المعنوي- والمادي- لدى الشعب، وبالتالي، مشروعيتها وشرعيتها ومن الشعور الجمعي بالحاجة الحيوية إليها. وإلى ذلك، سيحسّن من أدائها في مواجهة النوائب والأزمات بالبناء على خبرة مواجهتها للوباء. والحق أن الدول في التاريخ لا تبنى إلا في المحن والابتلاءات التاريخية؛ من جنس الحروب والكوارث والأوبئة التي من نوع وباء كورونا اللعين، وعليه، سنكون قد خرجنا من تجربة الجائحة بمغنم كبير: الدولة المقتدرة القوية.

ترى كيف كان سيكون مصيرنا- مصير شعوب الأرض كافة- في هذه الجائحة الوابقة لولا الدولة؟ يصعب على المرء أن يتخيل ما الذي كان سيحصل من دونها؛ من غير أن تحمِل عن المجتمع الضغوط الهائلة التي ألقاها الوباء على الصحة والحياة والمعيش اليومي والأمن، والتي لا قِبَل لأي مجتمع من مجتمعات الأرض بأن يحملها من غير إسناد من الدولة. ما كنت متزيداً، إذن، حين كتبت منذ زمن ما لا أزال شديد الاقتناع به: أن الدولة هي أعظم اختراع إنساني في التاريخ؛ وبه دشّنتِ الإنسانية مسيرة البناء والتقدم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"