المواطنة بين الصيرورة والواقع

03:49 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو


العلاقة بين المواطن والدولة تحتاج إلى ترسيخ أربعة مبادئ رئيسية، هي: التشاركية، والحرية، والمسؤولية، والمساواة.

ككل المفاهيم التأسيسية في العقد الاجتماعي، عرف مفهوم المواطنة صيرورة تاريخية فيها محطات رئيسية، ومنعطفات كثيرة، من بينها انتكاسات كبرى، لا تزال جزءاً من واقعنا الراهن، كما في مقتل جورج فلويد، المواطن الأمريكي من أصل إفريقي، أثناء محاولة اعتقاله من قبل الشرطة، في 25 مايو/ أيار الماضي، في مدينة مينيابوليس، ما أثار ردود فعل غاضبة داخل الولايات المتحدة، وخارجها، رأت في سلوك رجال الشرطة نوعاً من التمييز والعنصرية على خلفية العرق، واللون، ما يؤشر إلى وجود هوّة كبيرة بين ما ينص عليه الدستور الأمريكي، وبين الواقع الفعلي.

هذه الحادثة هي مجرد مثال، لا أكثر، عن التناقضات التي تعرفها الكثير من دول العالم بين ما تأتي عليه الدساتير من اعتراف بحقوق المواطنة التي تضمن عدم التمييز بين المواطنين، وبين الممارسات الفعلية التي تصدر عن أشخاص، أو مؤسسات، أو حكومات، مناقضة لمبدأ المواطنة، مع الإشارة إلى أن وجود هذه التناقضات لا ينبغي أن يمنعنا من قراءة التباينات بين الأنظمة السياسية، ووضعها كلها في سلة واحدة، ففي المثال الأمريكي نفسه، خرج ملايين المواطنين الذين ينتمون إلى أعراق وطبقات مختلفة، للتنديد بمقتل فلويد، ما دفع الرئيس الأمريكي إلى إصدار قرارات جديدة، بخصوص آليات الاعتقال، بما يساعد في عدم تكرار مثل هذه الحادثة.

ويمكن لنا الاتكاء على حادثة مقتل فلويد للتأكيد على مسألتين، الأولى هي أن الدساتير هي الحالة المثالية، أو يفترض أنها كذلك، لكنها لا تعكس إلا جانباً من الواقع، والمسألة الثانية هي أن مستوى تطور المجتمع، وتمتعه بالحريات، وقوة المؤسسات فيه، كلها مسائل مهمة في تصويب واقع ممارسة المواطنة، ففي الكثير من الدول التي لم يعرف فيها مسار المواطنة نضالات كبيرة، أو المحكومة من قبل أنظمة أيديولوجية، فإن مبدأ المواطنة يبقى مجرد تفصيل دستوري، لا مكان له في الواقع العملي.

وتَشكل مفهوم المواطنة في سياق تطور جملة مفاهيمية مترابطة مع بعضها بعضاً، حيث إن مبدأ المواطنة هو جزء لا يتجزأ من مفهوم أشمل، وهو العقد الاجتماعي، حيث أصبحت الحياة العامة من قوانين، وحقوق، وواجبات، وممارسات، خاضعة لتوافقات المجتمع، وهي توافقات تحددها الجهات الممثلة للمواطنين، وما هو مهم في هذه التوافقات أنها أقرت بأن الشعب هو مصدر السلطات، ما يعني أن العقد الاجتماعي نفسه هو عملية خاضعة لمبدأ الديمقراطية.

وصيرورة مفهوم المواطنة أوروبياً هي صيرورة تحول الفرد/ الإنسان إلى مرجعية للحقوق والواجبات، وتحول السلطة إلى سلطة زمنية، نُزعت عنها القدسية، ما منح الفضاء العام مساحة كبيرة من الحرية، انعكست، واقعياً، في مجمل النشاط البشري، خصوصاً في المؤسسات العامة المدافعة عن حقوق المواطنين، من أحزاب، ونقابات، واتحادات، وجمعيات. وقد تخللت هذه الصيرورة انتكاسات كبرى، كما في صعود النازية، والفاشية، لكن نهاية الحرب العالمية الثانية، وفشل هاتين الحركتين، أعادا الزخم من جديد لمفهوم المواطنة، الذي اكتسب معاني جديدة، كما في التأكيد على مبدأ الكرامة الإنسانية، الذي أصبح جزءاً من الدستور الألماني، الذي أقرّ في مادته الأولى أنه «لا يجوز المساس بكرامة الإنسان».

وصيرورة المواطنة عربياً، اتخذت سياقاً مختلفاً، وكان المفكر رفاعة الطهطاوي أول من أدخل هذا المصطلح، من خلال تحديد مفهوم المواطن، باعتباره «ابن الوطن المتأصل به، أو المنتجع إليه الذي توطن به واتخذه وطنه يُنسب إليه».

وكان الإعلاء من شأن الوطن والوطنية القاسم المشترك بين تيارات أيديولوجية عربية مختلفة، في مقابل ضعف التنظير الفكري للمواطنة، أو حتى ضعف النضال الحزبي تحت هذا المبدأ، وبقي الفرد، بوصفه مواطناً، هو الغائب الأكبر عن تلك الأيديولوجيات، لمصلحة حضور طاغٍ للفرد/المواطن بوصفه جزءاً من قضية وطنية، أو طبقية، أو عقائدية.

وبحسب دائرة المعارف البريطانية، فإن المواطنة هي «علاقة بين الفرد والدولة، كما يحددها قانون تلك الدولة، بما تتضمنه من حقوق - متبادلة - في تلك الدولة»، لكن هذه العلاقة القانونية، ومن أجل تحولها إلى واقع فعلي، تحتاج إلى ترسيخ مقومات حقيقية، لضمان أربعة مبادئ رئيسية، وهي: التشاركية، والحرية، والمسؤولية، والمساواة، وهي المعايير التي تحدد فعلياً مدى التطابق، أو الافتراق بين مكانة المواطنة في الدساتير، وبين رسوخها في الواقع.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"