عنف الإنكار

04:17 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

الإنكار - بما هو تعصّب ورفض للآخر المختلف: لقوله وفعله ووجوده (وأحياناً لشرعية وجوده) - هو فعلُ عدوان رمزي يقع على ذلك الآخر.

أشدّ أنماط الحط من الإنسان والقيم الإنسانية والإزراء بها، فعلُ الإنكار. والفعل هذا قد يأتي أحادياً من جانب، وقد يصدر من جانبين، فيكون إنكاراً متبادلاً. وهو، بوصفه فعلاً، يترجم شعوراً بعدم الاعتراف بالآخر، أو يعبّر عن منزع داخلي إلى محو، أو طمس، ما يقوله الآخرون، أو يفعلونه، لأن ذلك الذي يقال، أو يُفعل يُحدث لدى من ينكره شعوراً بضرر، أو أذى يلحقه منه، أو لأن ما يُقال ويُفعل يصطدم بما هو عند مُنكِره في حكم المعتقد به، أو المدروج على سلوكه.

يقترن معنى الإنكار، في هذه الحال، بالرفض، رفض المعطى القولي، أو السلوكي لتعارضه مع ما وقر في نفس رافضه من يقينيات، ومبادئ. ولا يحصل هذا الموقف من الإنكار إلا لدى من يتعصّبون لتلك اليقينيات، والمبادئ، ويحسبونها وحدها التي تتمتع بالحجيّة، والوثوق، ويعدّون سواها في ضلال. ولكن هؤلاء لا ينافحون عما يتعصبون له بوسيلة أخرى غير رفض ما يخالفه، بل ومعالنته العداء الجهير؛ كأن الاعتصاب لرأي أو لفكرة لا يكون إلا متى شهّر بما يخالفه، ومن يخالفه؛ كأن الناس لا يملكون أن يختلفوا في الآراء ومناهج الحياة، ولا يحق لهم أن يتوسلوا في القول والفعل وجوهاً وسبلًا أخرى غير تلك التي يقر في نفس المتعصب لرأيه أنها «الوحيدة» «الصحيحة»، و«القويمة». هكذا يضع المصاب بعقدة الإنكار نفسه في مواجهة المحيط الخارجي الذي لا يلائمه، أو يجاريه.

من البيّن، إذاً، أن الإنكار - بما هو تعصب ورفض للآخر المختلف: لقوله وفعله ووجوده (وأحياناً لشرعية وجوده)- هو فعل عدوان رمزي يقع على ذلك الآخر. وقد يبلغ، عند لحظة من التعبير عن نفسه، إلى عدوان مادي يلحق الأذى الفيزيقي بمن يقع عليه. ولكن، حتى في حدوده الرمزية يفضي إلى نتائج وأوضاع بالغة السوء. إنه ينتقض، من حيث المبدأ، واحدة من أثافي الاجتماع الإنساني - والثقافة والحضارة استطراداً - وأعني بها التواصل. لم يصبح الإنسان إنسانا؛ أي لم يغادر كينونته الحيوانية إلا حينما أصبح كائناً تواصلياً، أي يتبادل القيم المادية والرمزية مع بني جنسه: بالعقل واللغة والتفاهم. الإنكار نقض للتواصل، لأن مبنى هذا الأخير على الحوار: الحوار الذي يقع به التفاهم على مشتركات.

وليس يمكن الممسوس بالإنكار، الرافض لغيره، أن يحاور ذلك الغير ويتواضع معه على مشترك جامع. هكذا لا أيلولة للإنكار إلا إلى الاصطدام بالمجتمع، والثقافة، والحضارة، لا غرابة، إذاً، في أن يهبط معدل الحوار والتفاهم في اجتماعنا السياسي العربي، كما في ثقافتنا وفي بيئات النخب في مجتمعاتنا؛ ذلك أن معدل الإنكار فيها عال جداً، بحيث يجعل من الجماعات السياسية والثقافية، كما من الأفكار والتيارات الفكرية، جُزراً معزولة عن بعضها بعضاً، ومقفلة على نفسها. ينظر كل فريق - أحياناً كل فرد - إلى نفسه بما هو المالك الوحيد، والحصري، للحق في الكلام أو في الفعل، أو فيهما معاً، بزعم أنه على صواب من أمره فيهما. ولما كان الوهم هذا يستصحب الاعتقاد بأن الآخرين يزلون في الرأي، أو قُصّر عن إتيان السديد من الرأي، فإن واحداً من أظهر أفعال تخطئتهم يكون بالامتناع عن مخاطبتهم، وإغلاق سبل التواصل معهم. وعندي أن ثقافة ومجتمعاً سياسياً يمتنعان، حكماً، على إرادة التقدم إن أصابهما وباء الإنكار، وعزّت فيهما فرص التواصل والحوار. والأطم من طامة ذلك الامتناع أنهما يغدوان مهيآن لاستقبال كل ضروب الاحتقان والتوترات فيهما، ويعجزان، بالتالي، عن تأمين استقرارهما. وهل يحصل في المجتمعات والثقافة العربية غير هذا؟

وأسوأ أنواع الإنكار، وأشدها إيذاء لمن يقترفها، هو إنكار الواقع والتعامل معه بما هو مرتفع، أو معدوم، ثم الانصراف - بدلاً من ذلك - إلى الانغماس في «واقع» افتراضي متخيّل، أو مُتوهم، وحسبانه الواقع الفعلي الموضوعي. ولنتخيل، لحظة، إلى أي مدى يأخذ المرء، أو المجتمع، مثل هذا النوع من الإنكار للواقع: إما إلى انشطار الشخصية، في حالة الفرد المصاب به، وإما إلى التخبط في مواجهة المشكلات المجتمعية، في حالة المجتمع الذي لا يعترف بمشكلات واقعه. وما من دواء لداء الإنكار سوى رياضة النفس على إنكاره؛ أي على مقاومته بتحلية النفس بالقيمة النقيض السوية: قيمة الاعتراف؛ الاعتراف بالآخرين، والاعتراف بواقع لا يرتفع إلا إن توفر عنه الجواب المناسب الذي به يرتفع، ويتغير.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"