الديمقراطية واختلالاتها المفاهيمية!

04:20 صباحا
قراءة 3 دقائق
كمال الجزولي

أتى على الساحة السياسية العربية حين من الدهر خبرت فيه ما ظل يعرف، لسنوات طوال، بمصطلح «الأنظمة التقدمية» التي انبنت، أساساً، بآليات «الانقلابات»، وفق مفاهيم البرجوازيات الصغيرة العسكرية، المناقضة، على اختلاف فئاتها وشرائحها، لمفهوم «الديموقراطية الليبرالية»، القائم على احترام مبادئ التعدد والتنوع، والإعلاء من قيم الحريات العامة والحقوق الأساسية.
«الديمقراطية»، إذن، بدلالة الحريات والحقوق السياسية، تتناقض؛ بل تستوجب القطيعة التامة مع نزعة البرجوازية الصغيرة الفوقية للبناء والتغيير، مثلما تقتضي الاستمساك الصارم بضرورة انطلاق هذين البناء والتغيير من قلب حركة جماهيرية متمتعة، قبلاً، بحرياتها وحقوقها، في البلدان النامية؛ حيث أكدت خبرة العديد منها أن معظم مشروعاتها، وإجراءاتها الاقتصادية، ومخططاتها السياسية، التي توصف، عادة، بأنها «تقدمية»، كعمليات الإصلاح الزراعي، وتأميم المؤسسات الأجنبية، على سبيل المثال، لا تعدو، بغير المشاركة الشعبية الفاعلة، كونها محض وهم، أو تدابير معزولة يسهل إلغاؤها لدى أول تحرك انقلابي مضادٍ، دون أن يكون بين أيدي الجماهير، صاحبة المصلحة الحقيقية في البناء والتغيير، ما يؤهل لحمايتها، ذلك أن هذه «الديمقراطية» هي، بالفعل، الضامن الحقيقي للتطور والاستقرار، وبغيرها لن يكون لهذه المشروعات أو الإجراءات أي معنى، كما ولن تشهد هذه البلدان أي تطور أو استقرار، مهما نشط التبشير بهما، تحت أية لافتة أو شعار.
غير أن ذلك لا يعني، البتة، علو كعب الوهم المعاكس، من الجانب المقابل، بأن الحريات والحقوق السياسية وحدها كفيلة بتحقيق مجتمع الرفاه، أو جنة الليبرالية على الأرض، ولعل أكبر دليل على سداد هذا الاستنتاج بشأن النتائج المترتبة على اختلال هذه المعادلة هو تصدع وانهيار التجربة الاشتراكية العالمية، بعد أن عمرت الثرى، بالإنجازات «المادية»، وارتادت الثريا، ثم إذا بتحولها إلى البناء الرأسمالي يعجز، بالمقابل، عن تحقيق الجنة الموعودة، على الرغم من تعاقب ثلاثة عقود، حتى الآن، من التحليق بأجنحة الديمقراطية السياسية وحدها.
فتجربة الاتحاد السوفييتي، مثلاً، تقدم درساً بليغاً مفاده خطل التعويل على خطة تحقيق الاستقرار وفق معادلة التضحية بالحريات والحقوق «السياسية» ثمناً لتحقيق الرخاء «المادي» للمواطنين؛ حيث حققت تلك التجربة، بالفعل، مستويات مشهودة من الوفرة في الغذاء، والسكن، والصحة، والتعليم، والثقافة، والرياضة، مثلما راكمت إنجازات هائلة في مجالات العلوم، بما في ذلك علوم الفضاء، والفلك، وما إليها.
ومع هذا فقد آل بنيانها التاريخي الضخم إلى انهيار مدوٍ بسبب اختلال معادلة تحقيق المكاسب «المادية» للشعب على حساب حقوقه «السياسية»، ثم ها هي الأزمات، الآن، تحتوش روسيا الرأسمالية، أيضاً، بسبب نفس المعادلة المختلة؛ حيث توفرت للمواطنين حقوقهم «السياسية»، لكن على حساب حقوقهم «المادية».
هكذا ينبغي أن يرسخ في وعي القوى الوطنية الديمقراطية الحقيقية، في بلدان العالم الثالث، وفي خطها الدعائي، بالتبعية، أن خطط ما يسمى ب«الأنظمة التقدمية» وهم كبير؛ حيث نشدان التطور الحضاري، والتقدم الاجتماعي، لا يكون بالإنجازات «المادية» وحدها، ولا بالإنجازات «السياسية» وحدها، وإنما بالجدية في ترسيخ «الديمقراطية» ذات المحتوى الاجتماعي، مما يستتبع بذل الجهد، ابتداء، لبناء أوسع تحالف للقوى الوطنية الديموقراطية، شاملة تياراتها السياسية، ومنظماتها المدنية، وروابطها المجتمعية، واتجاهاتها الفكرية، ورموزها العامة، في مسيرة قاصدة، لا لبناء ديمقراطية شكلية «عرجاء»، كيفما اتفق، وإنما لتحقيق وتعزيز «الديمقراطية» المعنية بضمان «الحقوق السياسية» و«العدالة الاجتماعية»، في آن واحد، تحملاً لمشقات هذه المعادلة، وقبضاً على جمرها، ثم حشداً للقوى الشعبية المشار إليها كافة، كلما لزم الأمر، لمنازلة الشمولية، والمظالم الاجتماعية، وإلحاق الهزيمة بها، دون الاضطرار للتورط في أية مؤامرة انقلابية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"