«مابعد الحقيقة»

04:16 صباحا
قراءة دقيقتين
يحيى زكي

من أحدث المصطلحات التي يصادفها القارئ، مصطلح «ما بعد الحقيقة». ويقال غالباً لوصف تلك الفوضى التي تهيمن على مواقع التواصل والتطبيقات الفائقة الحداثة، حيث يشك الجميع في ما يطرحه الجميع، ويأتي المصطلح الجديد ليتوج سلسلة «المابعديات» التي بدأت في الانتشار في تسعينات القرن الماضي.

«ما بعد الحقيقة» تعبير إشكالي بامتياز، فإذا كان الذهن يلتقط بسهولة مصطلحاً مثل «ما بعد الحداثة» على سبيل المثال، حيث هناك مجموعة من المقارنات المؤسسة على وقائع ومدارس وأعلام وفلسفات ومراحل تاريخية، والتي من خلالها نستطيع التمييز بين قيم وأفكار الحداثة، وقيم وأفكار ما بعدها، فإن «الحقيقة» أحجية في كل ما يتعلق بها، بداية من التعريف وليس نهاية بالدلالة مروراً بآليات تمكننا من الإمساك بالمصطلح في وجوده الواقعي.

«الحقيقة» كلمة يصل الخلاف عليها إلى درجة عصية على الاستيعاب والحصر، فلكل إنسان منظومته التربوية والتعليمية والطبقية.. التي على أساسها يدرك في قرارة نفسه ماذا تعني الحقيقة، هذا بخلاف ترجمة هذا الإدراك إلى سلوك في حياته اليومية وعلاقاته الاجتماعية، فكثيراً ما تختلف القناعة عن التصرفات، وحتى إذا بحثنا عن نقيض الكلمة علّه يساعدنا ونحن نتلمس خطانا في هذا الفضاء الشائك، سنجد أمامنا كلمات أكثر إشكالية، فهناك: الهراء والتضليل والخداع والزيف والغش وصولاً إلى الكذب، وهي بدورها مفردات تخضع لمجموعة عوامل متشابكة إلى درجة التعقيد.

وإذا ذهبنا إلى الآليات التي من خلالها نستطيع إدراك الحقيقة، فبإمكاننا تلمس غياب الأفكار الكبرى وصعود العولمة والإفراط في الاستهلاك كعلامات محسوسة تميز مرحلة «ما بعد الحداثة»، وفي المقابل سنجد الحقيقة تراوغنا مرة أخرى. فليس للكلمة من تحولات ملموسة تجعلنا نجزم أننا كنا نعيش في «حقيقة» ثم انتقلنا إلى مرحلة لاحقة، بل ويفرض علينا الاقتناع أو ترديد مصطلح «ما بعد الحقيقة» أن نقول ببساطة وشجاعة إننا نعيش الآن في عالم مؤسس بأكمله على «الأكاذيب» وإننا كنا في الماضي أبرياء لا ننطق إلا بالصدق، وهي نتيجة، ليست «حقيقية» فضلاً عن مرارتها ومجافاتها للمنطق ولوقائع التاريخ.

أما عندما نتأمل قليلاً سياق المصطلح كدلالة على ذلك الإعلام الجديد، حيث أصبح لدى كل إنسان إمكانية القول والتعبير والإخبار، فمن الظلم البين أن نقول إن الإعلام الكلاسيكي لم يمارس الكذب والتضليل أبداً، بل إن المقارنة لا بد أن تأتي في صالح الإعلام الجديد. فإذا كانت دوافع الفرد للكذب عديدة، وربما لا يدرك هو أنه يكذب، مع الأخذ في الاعتبار إمكانية كشف هذا الكذب بسهولة، فإن تضليل الصحيفة أو القناة الفضائية أكثر تأثيراً وامتداداً وحرفية، ولا يمكن قبوله إذا حاكمناه بأخلاقيات «الحقيقة» نفسها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"