الفقهاء والسلطة

23:02 مساء
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

منذ قامت الدولة في الإسلام، مستعيرة هندستها من دول عصرها، واستتب لها الأمر  وكان ذلك بعد الخلافة الراشدة  نشأت لديها الحاجة إلى المعرفة وإلى الخبرة، بما هما الوقود الضروري لاشتغال آلتها. ولم يكن ليفوت فئة الفقهاء ولا فئة الكتاب أن حاجة السلطة إليهما مُست، وأن أدوارهما ستكون، بالتالي، موضع طلب. فلقد أدرك رجال الفئتين  فقهاء وكتاباً  أنهم يحتازون رأسمالاً ثميناً لا غنى لأي سلطة عنه كي تدير أمورها. 

ولكن تقدير كل فئة لمكانتها ولقيمة بضاعتها وحاجة السلطة إليها اختلفت، ففيما بنى الفقهاء تقديرهم لدورهم على قاعدة أنهم الأعرف بمقتضيات النص والشرع، مال الكتاب إلى قياس أقدارهم على معيار آخر: أنهم الأعلم بمقتضيات السلطة وحاجات السلطان؛ لذلك بدت كفتهم عند الأخير أرجح في الميزان.

والحق أن علاقة الفقيه بالسلطة والسلطان خضعت لمسار من تحولات فرضها فهمه المغلوط لدوره، في المقام الأول، قبل أن يفرضها أي عامل آخر كان للسلطة يد فيه. للسبب هذا، يتعسر تعريف هذه العلاقة تعريفاً إجمالياً على نحو ما يمكن تعريف علاقة الكاتب بالسلطة والسلطان. مقابل ذلك، يمكن تحديدها (علاقة الفقيه بالسلطة) من خلال تجليات ثلاثة لها تبدت فيها. وهي لم تكن، دائماً، متعاقبة في الزمان؛ بل غالباً ما كانت متزامنة، خصوصاً في التجليين الثاني والثالث منها.

بدت العلاقة في صورتها الأولى علاقة فقيه بسلطة لا يرى فيها إلا كياناً موضوعاً برسم خدمة الشريعة، محكوماً بمرجعيتها وما تقضي به أحكامها المنصوص عليها. وبما أنه يكل إلى نفسه مهمة مخصوصة وحصرية، هي تفسير النص الشرعي، وما يترتب على ذلك من موجبات، منها حراسة الشرع والسهر على إنفاذ أحكامه في الواقع، فقد نظر إلى السلطة بما هي أداة تحقيق المهمة التي أوكلها إلى نفسه. 

ولما كان الفقيه ليس إمام شؤون السياسة، وكان الإمام ليس فقيهاً، لم يبق للفقيه غير أن يجعل سلك الإمامة تحت سلك الفقه، والسلطان خاضعاً لسلطته بما هو «ممثل» للشرع. ولقد ساءت الصلة بين السلطان والفقيه في هذا الوجه (الأول) من العلاقة، فبدا الثاني للأول ثقيل الظل وفضولياً يتجاوز حده، وخشي منه ومن دعاواه فأبعد عن رحاب السلطة لئلا يكون عليها وعلى الماسك بزمامها وصاية من أحد؛ بل إن ألواناً من السوء لحقت الفقهاء من إصرارهم على وضع السلطة تحت احتسابهم الشرعي عليها. ولقد أحجم أكثر هؤلاء الفقهاء عن الصلة بالسلطة، وذهب بعضهم إلى التحريض عليها.

أما في صورتها الثانية فبدت علاقة تعايش مضطرب تتخلله شكوك من الجانبين. توقف الفقهاء، في هذه العلاقة الثانية، عن الطعن على السلطة والدعوة إلى الاحتساب عليها، ليكتفوا بتقديم النصيحة (التي هي بيان لموقف الشرع مما ينبغي للسلطان أو الخليفة أن يعلم به)، ولكن من دون أن يقتربوا من السلطة أو يكونوا جزءاً منها. أما موقفهم من شرعيتها فاختلف عن موقف الفقهاء الأولين، فلم يربطوا  مثلهم  تلك الشرعية بوجوب الانضباط للشريعة وتطبيق أحكامها؛ بل سلموا بها على علاتها، ومحضوها الولاء لأنها  وإن تكن جائرة  أفضل للأمة والجماعة من الفتنة. وعلى الرغم من مهادنتهم السلطة والسلطان، لم تكن تطمئن إليهم هذه الأخيرة، خاصة مع تمسكهم بأن يظلوا لسان الشرع في المجتمع الذي يستمد سلطانه من «العامة» التي تحيط بهم، في حين يبغي السلطان أن يكون هو  لا غيره  لسان الشرع وممثله.

أما التجلي الثالث للعلاقة تلك، وهو الأمكن والأدوم في تاريخ الإسلام، فبدت فيه علاقة تساند متبادل: الفقهاء من جهتهم، يسندون الحكام ويخلعون الشرعية الدينية عليهم، ويدعون إلى طاعتهم لأنهم سدنة الدين والدنيا وضمانة وحدة الجماعة، والأمراء (الخلفاء، الملوك) من جهتهم، يسندون الفقهاء ويعترفون لهم بوظيفتهم الشرعية، ويسبغون عليهم الرعاية والحدب. يطيب للسلطة هذا النوع من الفقهاء لأنهم يخدمون الدولة، ويوفرون للماسكين بأزمة الأمور فيها، الأسباب التي تجعل سلطانهم مشروعاً في عيون الرعية. ويطيب للفقهاء أن يستتب أمر السلطان السياسي؛ فبِه تحفظ وحدة الجماعة وتدرأ الفتنة، وبه تستتب لهم هم أمورهم كفئة ذات اعتبار في المجتمع والدولة.

تدرج موقف الفقهاء  إذن  من الرفض إلى الاستقلالية، فإلى الموالاة لا خوفاً من بطش السلطان، كما يقال عادة؛ بل إيماناً بالحاجة إلى وحدة الجماعة ودرء الانقسام والفتنة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"