السعادة في الثمانين

مرايا الزمن
00:07 صباحا
قراءة 3 دقائق

الاستطلاع الذي أجرته إحدى الأكاديميات الغربية المرموقة في الآونة الأخيرة والذي نُشرت نتائجه في العديد من الصحف حول العلاقة بين السعادة والزمن هو استطلاع مفاجئ بكافة المعايير، خاصة لأولئك الذين ظلوا لفترة طويلة يربطون بين السعادة والطفولة أو بينها وبين الشباب . فقد أفضت البحوث المتعلقة بسعادة الإنسان وشقائه، والتي استندت إلى إحصاءات واستطلاعات رأي لعينات اجتماعية من مختلف الشرائح والأعمار إلى الاستنتاج بأن السعادة الحقيقية للبشر، أو لمعظمهم على الأقل، تبدأ في عمر الثمانين وصولاً إلى لحظة الموت . ويؤكد الاستطلاع أن سن الخامسة والثمانين هو السن الذي تصل فيه سعادة البشر إلى ذروتها، حيث الدعة والهناءة والرضا التام .

تكمن المفاجأة بالطبع في كون النتائج التي تم استخلاصها تتعارض بشكل قاطع مع المفاهيم السائدة من قبل والتي كان ينظر فيها إلى الشيخوخة بوصفها رديفة للعجز والانهدام والتآكل البيولوجي والانتظار الممض والسقيم للموت . يلتقي في هذا التصور كل من العلم والدين والأدب والفن وبجهد كل من ناحيته على اعتبار الشيخوخة عودة للإنسان إلى أرذل العمر كما جاء في القرآن الكريم، أو اعتبارها مرضاً قائماً بذاته، وفق التشخيص الطبي، أو تحويلها إلى نوع من الفوبيا النفسية والذهنية التي تدفع بالشعراء والمبدعين إلى الرعب من استحقاقاتها الداهمة ودرء كوابيسها بما تيسر من القصائد والأعمال الأدبية والفنية . فمنذ زمن البطل السومري جلجامش وحتى يومنا هذا لم يكن البحث عن عشبة الخلود بحثاً عما يرد عن الإنسان غائلة الموت وحدها، بل عما يبقيه في صورة الشباب الدائم والحيوية المتألقة وإلا لأصبح الخلود مع العجز أمر مذاقاً من طعم الموت نفسه .

يربط الشاعر العباسي ابن الرومي صورة الحنين إلى الوطن بفكرة الشباب وصورته الطافحة بالمسرات عبر قوله: وحبب أوطان الرجال إليهم/مآرب فضاها الشباب هنالكا . أما أبو الطيب المتنبي فلا يجد تمثيلاً على شقاء الإنسان أكثر من الشيب الملازم للشيخوخة، ومع ذلك فهو يستخدم ذلك المعنى في وجهة أخرى تجعله لشدة ألفته للأشياء يغادر شيبه باكياً ومتألماً، في ما لو أتيحت له العودة إلى الصبا . وقبل ذلك كان شاعر عربي جاهلي يعلن، وهو الخبير العارف، أن الشيب وقلة المال يحولان حظ الرجل من النساء إلى عدم خالص .

في روايته أيام زائدة يعرض الكاتب اللبناني حسن داود إلى حياة جده الثمانيني فلا يرى فيها سوى هولٍ بيولوجي شديد الرثاثة والانحلال .

ربما كان غابرييل غارسيا ماركيز من بين القلة الذين ذهبوا في الاتجاه المعاكس ودفع ببطلي روايته الحب في زمن الكوليرا إلى رفع راية الأمل والشغف بالحياة في الثمانين من عمريهما، كما دفع ببطل ذاكرة غانياتي الحزينات إلى مصير أكثر تفاؤلاً حين جعله، وهو التسعيني، لا يتعلق بأهداب صبية يانعة في مقتبل العمر فحسب بل جعلها تبادله الحب والاهتمام في الوقت ذاته .

ما الذي جعل الناس، أو غالبيتهم على الأقل وفق ما جاء في الاستطلاع، يذهبون إلى اعتبار الشيخوخة هي الفترة الأكثر هناءة ورغداً في حياتهم؟ يعود ذلك - أغلب الظن -إلى تحلل البشر من الوعود المرهقة التي ينذرون لها أنفسهم في مراحل العمر الأخرى والتي تسبب لهم الكثير من الألم والمعاناة . إذ ليس ثمة هنا ما يتصل بآلام الحب المبرحة والمحبطة التي تدفع الكثيرين إلى اليأس أو الانتحار . وليس ثمة ما يتصل بالتزاحم الشرس على المناصب والكراسي وتكديس الثروات وتحقيق النجومية، وإذا كان سن التقاعد الذي يحل عادة في النصف الأول من ستينات الأعمار يترك أمام المتقاعدين هامشاً وافراً لتحقيق المزيد من المكاسب، فإن الثمانين هي السن التي يسأم فيها المرء تكاليف الحياة، وفق زهير بن أبي سلمى، والسن التي يتصالح فيها البشر مع أنفسهم استعداداً للحظة النهاية الحاسمة .

ثمة في الشيخوخة ما يشبه الطفولة تماماً . أو قل هي طفولة ثانية بشكل أو بآخر . وما الضمانات العديدة التي توفرها المجتمعات المتقدمة للشيوخ كما للأطفال سوى اعتراف ضمني بهذه الحقيقة التي تجعل كليهما عاجزاً عن تحمل أعباء الحياة من دون مساعدة من الخارج .

الشيخوخة بهذا المعنى هي ضغضغة رمزية لحلوى الزمن واستدعاء إلزامي للذكريات المنقضية التي تهب من جهة الماضي، تماماً كما فعل عجائز كاواباتا في رواية الجميلات النائمات، لذلك فهي تبدو بشكل أو بآخر نوعاً من الإقامة في الأرجوحة الهانئة التي تسبق النزول إلى القبر . ومع ذلك فعلينا أن لا ننسى أن الاستطلاع المذكور قد تم في بلدان الغرب المتقدمة حيث الضمانات الكثيرة للشيخوخة تجعلها تقريباً بلا منغصات، خلافاً لما هو الحال في عالمنا الثالث المثخن بالفقر والبؤس والمرض وغيرها من المرادفات .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"