الهروب الروسي إلى السلام

04:05 صباحا
قراءة 4 دقائق
عاصم عبد الخالق

إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أواخر الشهر الماضي، عن بدء المرحلة الثانية للعملية العسكرية في سوريا، أعطى إيحاء قوياً بأن موسكو في سبيلها لتطوير هجومها وتوسيع نطاقه. عزز من هذا الاعتقاد أمران أولهما أنه كان يتحدث أمام القادة العسكريين، وبالتالي الافتراض بأن كلامه ينصب على الجانب العسكري. الأمر الآخر أنه أكد في الخطاب نفسه أن الأهداف الأولية قد تحققت، ومن ثم فمن الطبيعي الشروع في الانتقال للمرحلة الثانية.

تفسير كلمات بوتين بهذا الشكل يبدو منطقيا للوهلة الأولى، غير أن هناك رأياً مختلفاً وتفسيراً مغايراً لما قاله. فحوى هذا الرأي هو أن المرحلة الثانية الحقيقية ستتمثل في انتقال روسيا إلى العملية السلمية وليس تطوير عملياتها العسكرية التي تقتصر حتى الآن على الضربات الجوية والصاروخية. (دون أن يعني هذا التخلي عن العمل العسكري).
لا ينطلق هذا الرأي من فراغ لأن التقدير الموضوعي للموقف يشير بوضوح إلى أنه لم يعد لدى الآلة العسكرية الروسية الكثير لتحققه. بل إن إطالة أمد الحرب تمثل مخاطرة هائلة لن يقدم عليها بوتين، ولن تتحملها بلاده. ما حققته الغارات حتى الآن هو أقصى ما يمكن تحقيقه من نتائج، وهي معقولة وليست كبيرة أو مبهرة بالمقاييس العسكرية. غاية ما تستطيع أن تفاخر به روسيا في هذا الصدد أنها حققت هدفا مزدوجا هو إضعاف المعارضة من جانب، وتقوية موقف القوات الحكومية السورية من جانب آخر. ولكن في المقابل لم ولن تنجح في استئصال المعارضة ولا الجماعات الإرهابية حتى لو وجهت إليها ضربات موجعة. ولم ولن يمكنها إعادة بسط سيطرة قوات الأسد على ربوع سوريا حتى لو منحه تدخلها قبلة الحياة في لحظة حاسمة كاد أن يلفظ فيها أنفاسه الأخيرة.
فوق هذا حققت روسيا مكسباً سياسياً مهماً وهو أنها ضمنت بتدخلها أن تكون لها كلمة في تحديد مستقبل سوريا، وشكل الحكم فيها عندما يحين الوقت. على هذا النحو تبدو المكاسب الروسية معقولة ولكن لا تمثل انتصاراً حاسماً. بالطبع يعرف الروس هذا ويعرفون أيضا أن من الحكمة التوقف عند هذا الحد من التورط العسكري، وعدم تحويل سوريا إلى أفغانستان أخرى يغوص في أوحالها الجيش الأحمر.
الحسابات السياسية والاقتصادية توضح أن روسيا ستدفع ثمنا باهظا لو استمرت الحرب لسنوات. لن يضمن بوتين تأييد الرأي العام الروسي للحرب مع استمرار النزيف المادي والبشري. كما أن الخزانة العامة التي تشكو من نضوب الموارد بفعل انخفاض أسعار النفط والعقوبات الغربية لا يمكنها تحمل المزيد من الاستنزاف. ووفقاً للأرقام الصادرة عن معهد «رويال يونايتد» وهو مجموعة بحثية عسكرية في لندن، فإن موسكو وضعت تقديرات لتكلفة الحرب في 2016 تبلغ 1,2 مليار دولار، وعلى أساس أربعة ملايين دولار يومياً. هذا العبء يظل محتملاً بالنسبة للاقتصاد الروسي على المدي القصير. غير أنه بعد إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية قرر بوتين زيادة حجم التسليح لقواته ما أدى لمضاعفة الإنفاق إلى ثمانية ملايين دولار يومياً. ولو سارت الأمور على هذا النحو فإن التكلفة السنوية ستبلغ ثلاثة مليارات دولار وهو رقم مرهق للغاية.

ثمة خسائر سياسية أيضاً أهمها المخاطرة بتكرار حوادث مثل إسقاط الطائرة بنيران تركية وهو ما فجر أزمة سياسية حادة بين البلدين.

غني عن البيان هنا أن روسيا لا يمكنها المخاطرة بالرد عسكرياً على ضوء عضوية تركيا في حلف الناتو. كما أنها لا تستطيع تحمل أي تصرف تركي آخر تعتبره عدوانا عليها لأن من شأن ذلك إلحاق الضرر بهيبتها الدولية وكرامتها الوطنية وإحراج بوتين داخلياً. أما ما تفرضه من عقوبات على أنقرة فهي تدفع أيضاً فاتورته بالنظر إلى متاعبها الاقتصادية الجسيمة.
إزاء هذه المعطيات كلها وأخذاً في الاعتبار الدرس الذي تعلمه الروس، كما استوعبه الأمريكيون قبلهم، وهو أنه لا يمكن حسم الحرب بالغارات الجوية وحدها، كان طبيعياً أن تولي موسكو وجهها شطر المفاوضات الدبلوماسية كخيار وحيد متبقي لتحقيق الأهداف السياسية المطلوبة، بعد أن تكفلت القوة العسكرية بإنجاز ما استطاعت إليه سبيلاً.
يفسر هذا لماذا أصبحت موسكو منفتحة تجاه مباحثات فيينا، ولماذا وافقت سريعاً على الدعوة الأمريكية لحضور مباحثات نيويورك.

على ذلك تبدو الأجواء مهيأة لإيجاد تسوية على ضوء اعتبارين: الأول أن روسيا والولايات المتحدة لديهما قناعة بأن الخيار العسكري لن يحل المشكلة، وأنه أدى مهمته بتهيئة الأجواء وتمهيد الأرض على النحو الذي تريداه لرسم خريطة سوريا في المستقبل بما يراعي مصالحهما.

الاعتبار الثاني هو أنه تم تجاوز العقبة الأكبر المتمثلة في مستقبل بشار الأسد. تراجعت كل دولة خطوة للوراء دون التخلي عن موقفها. روسيا التي تتمسك به قالت إن مصيره يقرره السوريون وحدهم، أي تركت الباب مفتوحاً أمام رحيله في مرحلة لاحقة، ولم تعتبر استمراره (خلافاً لإيران ) مسألة مبدأ غير قابل للتفاوض. على الجانب الآخر أجلت واشنطن مطالبتها برحيله «فوراً» مكتفية بالقول إن هذا يجب أن يحدث ولكن ليس «الآن». ومن دون أن تحدد مدة لبقائه في السلطة.
لا يعنى هذا التفاؤل أن طريق السلام أصبح ممهداً، لأن ما نتحدث عنه هنا هو تفاهمات بين القوى الكبرى على تسوية تضمن مصالحها هي بالأساس. بينما لا يزال صوت الشعب السوري مغيباً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"