حذارِ من امتداد النار

05:19 صباحا
قراءة 4 دقائق

تمتد الأزمة السورية إلى أجزاء من لبنان، إلى شماله بالذات، محمولة على عوامل عدة، منها الواقع الطائفي في هذا البلد وفي مدينة طرابلس بالذات . وقد هدأت الأحداث في المدينة اللبنانية الثانية، بعد وقوع خسائر في الأرواح شملت مدنيين وعسكريين، مع أضرار فادحة في الماديات . ولحسن الحظ فإن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ينتمي إلى هذه المدينة، وذلك ما دفعه إلى جانب مؤسسات الدولة الأخرى، إلى أن يلقي بثقله لمنع تفاقم الأحداث، إذ إنّ أي تدهور أمني في عاصمة الشمال، من شأنه أن يلقي بظلاله على زعامة ميقاتي وعلى قاعدته الانتخابية، فيما لعبت المؤسسة الأمنية دوراً حاسماً في تطويق الوضع ومنع امتداد ألسنة النيران في هشيم الطوائف . والخلفية العسكرية لرئيس الجمهورية ميشال سليمان القائد السابق للجيش، أسهمت بدورها في منع الفتنة التي ابتدأت بمقتل شيخين عند نقطة تفتيش للجيش .

العامل الطائفي، وهو هنا مذهبي، لم يتحرك بعوامل ذاتية محضة، فالبعد الطائفي في الأزمة السورية، وجد له هذه المرة ترجمة فورية لدى الطوائف المعنية في لبنان، حتى إن الجغرافيا السياسية وغير السياسية لعبت دوراً في أن تكون أحداث طرابلس مايو/أيار الماضي رجع صدى متأخراً للأحداث المروعة التي شهدتها حمص على امتداد ما يزيد على عام واحد . يستذكر المرء أن مسؤولين سوريين حذروا من امتداد ألسنة اللهب السوري إلى الخارج، وخاصة دول الجوار، وقد جاءت الأحداث في الشمال اللبناني لتشهد على جدية هذا التحذير الذي كان مضمونه في الأصل سياسياً يخاطب دولاً، ويتعدى التكوين الطائفي للمجتمعات . غير أن البنية الهشة للمجتمع السياسي اللبناني كانت السبّاقة إلى الاستجابة لتلك النبوءة، تماماً كما أن خطف معتمرين لبنانيين والإفراج عن النساء من ضمنهم، في منطقة على الحدود السورية التركية، هو بدوره شاهد إضافي على مفاعيل الجانب الطائفي في الأزمة السورية، وقد وقعت جريمة الاختطاف ما إنْ هدأت الأحداث في طرابلس، وقد كان رئيس الوزراء ميقاتي دقيقاً في التقاطه انعكاسات الأزمة السورية، وإدراكه لحساسية الجوار الجغرافي في هذه المرحلة، فأصدر عبر مجلس الوزراء قراره بحصر السفر للاعتمار في الديار السعودية وزيارات الأماكن الدينية في العراق وإيران جوّاً، وهو القرار الأول من نوعه منذ عقود الذي يحظر السفر في حالات بعينها على لبنانيين عبر الأراضي السورية .

يفاقم الأمر في الحالة اللبنانية انتشار السلاح بين الأفراد والجماعات، الكثير منه مرخص لغايات حراسة الزعماء وما أكثرهم، بينما الشطر الأكبر من الأسلحة غير مرخص بحيازته وحمله، وقد لاحظ من لاحظ أن اشتباكات طرابلس توقفت واستتب الأمن فيها، لكن الأسلحة التي استخدمها المتقاتلون بقيت في حوزتهم، وليس سرأ أن هناك تجارة سلاح واسعة في هذا البلد، وذلك في ظل الاعتراف بوجوده كأمر واقع، وحين تتوافر سلعةٌ ما بكميات تجارية في أي مكان، فإنه يسهل تصور نشوء تداول تجاري لهذه السلعة، وبعض الأسلحة التي تسربت إلى سوريا تمت بالبيع والشراء، كما يجري داخل لبنان نفسه، وهي مسألة موروثة منذ عقود، منذ الحرب الأهلية الإقليمية ابتداء من العام ،1975 والبعض يردّها إلى ما قبل ذلك . . إلى العام 1958 حين نشب نزاع أهلي، على قاعدة مناهضة حكم الرئيس الأسبق كميل شمعون، وميوله نحو الغرب .

لذلك بدا قرار الدولة اللبنانية بالنأي عن الأزمة السورية قراراً صائباً وبالأقل منه واقعياً تُحتّمه مصلحة لبنان واللبنانيين، لكن هذا الموقف لا يُنجيه من تداعيات الأزمة، فالأطراف الأهلية لا تنهج هذا النهج، وكلٌ منها يتفاعل مع الأزمة على طريقته ووفق حساباته وأحياناً قناعاته، وهذه الأطراف لا تقل وزناً في المعادلة السياسية الداخلية عن وزن الدولة نفسها . وبما أن لهذه الأطراف امتدادات وممثلين داخل الحكم والحكومة، علاوة بالطبع على تمثيلها في مجلس النواب، فلنا أن نتصور، في ضوء ذلك، مدى دقة وتعقيد التعاطي اللبناني مع الأزمة السورية، حيث يزداد الوضع الداخلي حساسية واحتقاناً كلما اشتدت الأزمة في الجوار، وهي تشتد للأسف وتتفاقم، ومجزرة الحولة التي تعِزّ على الوصف شاهدٌ على طورها الأخير والخطِر .

وفي واقع الأمر فإن عزوف أطراف دولية نافذة عن التدخل العسكري في الأزمة السورية، ناجمٌ في جانب أساسيّ منه عن الخشية من تدهور الوضع في الجوار، وخروجه عن السيطرة على الحدود مع الكيان الصهيوني، كما في لبنان والعراق وربما دول أخرى . غير أن لبنان يبقى للأسف الحلقة الأضعف من الناحية التكوينية للمجتمع السياسي فيه، وليس بحجم السلاح الذي يحوزه . ومن المفارقة أن هذا البلد تجتمع فيه الحيوية الشديدة والإطار الديمقراطي لتداول السلطة مع الأعطاب البنيوية، وقد بات منذ عقود يتأثر سلباً وبسرعة قياسية بالأزمات العربية، لكنه قلّما يستفيد من مظاهر المعافاة والتحولات العربية .

وبخصوص الموقف الرسمي من الأزمة السورية بالذات، فإن نهج النأي بالنفس على وجاهته المبدئية يحتاج إلى قدرٍ من التفعيل، حتى لا يتحول النأي إلى موقف سكوني، فيما تداعيات الزلزال تمور تحت الأقدام، وبوابة التفعيل هي تأييد حل سياسي فعلي تصمت معه المدافع في الشام وفق خطة عنان .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"