أنت السبب يا أنا

02:33 صباحا
قراءة 3 دقائق
نتذكر شعرة معاوية كثيراً حين تصل الأمور إلى حد يفصل بين شيئين متناقضين جداً، وتصبح هذه الشعرة مثل البرزخ الذي يفصل بين البحر والنهر أو المالح والحلو، وربما يكون الوقوف على إحدى الجهتين بشيء من الصبر ومن دون تعجل أو انجرار إلى الأخرى أفضل، فالمالح قد يفرض عليك أحياناً ومن دون ذنب منك، لكن ضرورة البقاء والعطش تفرض على الإنسان أن يتقبله، ويقول الأمير بدر بن عبدالمحسن:
سقاني صوتك البارح
             مرار الجرح والترحال
صحيح إن البحر مالح
                ولكن العطش قتال
يقال بأن السفر قطعة من العذاب، ويقال أيضاً إن به فوائد كثيرة حتى وإن رافقته أحداث متعددة منها التعب الشديد كما يقول عنه الإمام الشافعي:
سافر تجد عوضاً عمّن تُفارقُه
               وانصب فإن لذيذ العيش في النصبِ
إني رأيتُ وقوف الماء يُفسده
               إن سال طابَ وإن لم يجرِ لم يطبِ
وللسفر المضاد أيضاً عذاباته الكثيرة وانكساراته المتعددة، فالبعد والتنائي يفرض الغربة أحياناً على المسافر، ويصبح بلا يد تتدخل في هذا الغياب، فجناح السفر شاغل سعيد عقل وجعله يحلق ويقول:
قد غبتُ عنكم ومالي في الغياب يدٌ
                     أنا الجناحُ الذي يلهو به السفرُ
وقال الشاعر الأندلسي ابن زيدون:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا
                    ونابَ عن طيب لقيانا تجافينا
لكن قد تحدث في السفر أحياناً بعض الأمور التي تتداخل لدرجة قد تؤدي إلى الوصول إلى فقدان السيطرة، منها ما هو غريب ومنها ما هو متوقع، ومن غرائبها مشهد ذلك الشخص الذي حزم حقائبه ورتب أوضاع سفره وحجز تذكرة السفر، ثم أخذ إجازة من جهة عمله، وذهب إلى المطار في الوقت المحدد، لكنه بعد إنهاء إجراءات السفر المبدئية مر على نقطة توقف فيها فجأة وبلا سابق إنذار، وطلب منه الجلوس في مكتب للتحقيق في قضية اشتباه مع شخص آخر .
تخيل أن تكون أنت الشخص الآخر، تحمل اسما ثلاثيا وقبيلة تشبهك تماماً، وتكون ضمن قائمة تحمل اسم "سجل المطلوبين" في قضية ما ولنفترض أنها مالية، وأنت هذا "الآخر" لديك حساب بنكي في نفس بنكك أنت "الأصل" .
في هذه اللحظة المربكة جداً والمقلقة جداً والمحبطة جداً لن تتذكر خالد الفيصل وهو يقول:
يا شبيه صويحبي حسبي عليك
              كل ما ناظرت عينك شفت ذاك
بل ستقول لشبيهك "أنت السبب يا أنا . . ورطتني وحدث هذا بسببك" وربما تشعر أن أعصابك على كف عفريت، ليس لأنك خائف من شيء، لكن لأنك ستتأخر عن الرحلة، وربما تتوقف في نقطة لا تستطيع فيها رؤية الطائرة التي يفترض أنها ستحملك وتحلق بآمالك وطموحاتك "فوق هام السحب" وتعود إلى بيتك ربما بلا حقيبة لأنها قد تغادر من دونك إلى البلد الذي نويت الذهاب إليه، ثم تعود هذه الحقيبة اليتيمة بعد أيام إليك مرهقة من النزول في المطار ثم من تحويلها إلى إجراءات مختلفة عائدة إليك في طائرة أخرى لتستقبلها بنفس مكسورة الخاطر .
الفهم الأدق لشعرة معاوية هو كما فهمه معاوية حين قال "بيني وبين الناس شعرة لا تنقطع، إذا شدوا أرخيت، وإذا أرخوا شددت" وهكذا يجب أن نكون في مواقف يصل فيها الأمر إلى التخير بين أمرين، فحين يشد الآخر في الكلام نعمل على إرخاء الأعصاب حتى لا ينقطع الحوار ويتحول بسبب الغضب إلى تهمة، وفي السفر يجب أن نتفهم معاوية وشعرته هذه .

محمد عبدالله البريكي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"