التفوق الدراسي والبحث العلمي

02:41 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

تظل الثانوية العامة المصرية هاجساً يؤرق الأسرة المصرية وأبناءها في مطلع حياتهم، ودعني أقول بمعنى أوسع: إنني لا أقصد الثانوية العامة وحدها، ولكن كل أنواع الشهادات المتصلة بإتمام الدراسة الثانوية والتهيؤ للتعليم الجامعي، ولقد أفزعني تصريح رسمي لمسؤول كبير في وزارة التعليم المصرية يقول فيه: إن خمسة وخمسين ألفاً من الحاصلين على الثانوية العامة هذا العام يزيد مجموع كل منهم عن نسبة خمسة وتسعين في المئة، وهذا في ظني هراء، فهو يعكس توتر العملية التعليمية، لأن الذي كان يحصل على ثمانين في المئة في الثانوية العامة منذ خمسين عاماً كان يشار إليه بالبنان، ولا أتصور أن مستوى الطلاب قد ارتفع خلال هذه السنوات ليصل إلى هذه المعدلات التي تؤكد أن كل ما لدينا قد قلت قيمته حتى الثانوية العامة، فأصبح ثمنها رخيصاً والحصول عليها سهلاً.
وأتابع أحياناً في الصحف أخباراً تتحدث عن المجاميع العالية والتفوق الدراسي في مراحل التعليم المختلفة، كما لو كان ذلك إنجازاً وطنياً يضاف إلى رصيد الدولة ويعبر عن تقدمها، والأمر في ظني مختلف عن ذلك تماماً، إذ إن هناك فارقاً كبيراً بين التفوق الدراسي وتميز البحث العلمي. فالتفوق الدراسي في نظري لا يعدو أن يكون دليلاً على براعة الكر والفر بين صفحات الكتب والقدرة على الحفظ الذي يسبق الفهم، وهنا تكون لنا عدة ملاحظات نرجو أن يتسع صدرنا لها:
* أولاً: تشير النتائج الشائعة إلى أن الارتباط بين التفوق الدراسي في جانب والنجاح في الحياة والتميز بين الأقران في جانب آخر ليس شرطاً على الإطلاق، بل إننا رأينا متفوقين احتلوا الصدارة في الدراسة، ثم احتلوا المؤخرة في الحياة العملية، كما شهدنا العكس من أولئك الذين كانوا معروفين بالتخلف الدراسي والبلادة العلمية، ثم أصبحوا في مقدمة الحياة العملية، وفي طليعة من يتبوؤون المراكز المهمة، بل إن معظمهم حقق ثروات طائلة بجهده وخبرته على الرغم من أن كل التوقعات كانت توحي بغير ذلك.
* ثانياً: إن التفوق الدراسي في حد ذاته لا يشكل قفزة إلى الأمام، إذ لا يتجاوز تأثيره الشعور العائلي بالارتياح والتفاخر الاجتماعي، ولكن على حساب مقومات أصيلة كانت تدعو إلى ضرورة الاقتراب من التعليم التقليدي، سواء بالنسبة لدراسة المواد الأساسية التي تعتبر مادة كاشفة للتعرف إلى مستويات التلاميذ في المراحل الأولى وقدرتهم على الانتقاء بما يمهد لحسن الاختيار والقدرة على التمييز بين فروع المعرفة في السنوات الأولى من العمر، ولقد أثبتت الدراسات والتجارب أن الطفل الذكي ليس بالضرورة متفوقاً دراسياً، كما أن أولئك الذين لا يتصفون بالذكاء لم يكونوا بالضرورة من الشباب الفاشلين، بل إن الأمور مضت دون قاعدة ملزمة للطرفين، فكان هناك متخلفون دراسياً ولكنهم متميزون وظيفياً بصورة تدعو إلى الدهشة أحياناً.
* ثالثاً: إن نظام الامتحانات بطبيعته نظام عقيم، وإن كان يبدو شراً لا بد منه، وقد تكون الامتحانات الشفوية أفضل من التحريرية، ولكن يعيبها تدخل العنصر الشخصي، وافتقاد الحياد، ولذلك فإنه ليس من العدالة أن نقيم إمكانات طالب معين من خلال امتحان تحريري في ظرف محدد قد يتزامن مع ظروف سلبية تحتاج إلى التحقق والمراجعة، فالتميز البشري يحتاج إلى مساحة أوسع وقدرة على استلهام عناصر التفوق التي قد لا تبدو واضحة في شريحة زمنية محددة، ولكن تحتاج إلى مراجعة ومتابعة لا تتيسر إلا من خلال الحوار وفهم الشخصية، وهي أمور تتحقق بالاختبارات الشفوية، ولكن نخشى من سوء استغلالها وانحراف التقييم من خلالها.
*رابعاً: إن التفوق الدراسي هو ابن لحظته، ولا يعبر عن تميز عام في العقل أو الشخصية، ولذلك فإننا ندرك أن هناك من كانوا لا يتصفون بالقدرة على الحوار أو شد الانتباه، ومع ذلك أصبحوا من أميز العناصر وأكثرها نبوغاً وأشدها فهماً وقراءة لفصول الحياة ومتابعة لمشاهدها، إن السياسي البريطاني الداهية ونستون تشرشل لم يكن طالباً متفوقاً، كما أن نابغة جراحة القلب مجدي يعقوب كان طفلاً قليل الكلام لا يميل إلى الاندماج الشديد مع غيره على نحو أقلق أسرته في البداية، فإذا هو بعد ذلك يقف على قمة تخصصه الدراسي وخبرته العلمية، والقياس على ذلك واضح لمن يريد أن يقرأ صفحة المستقبل، أو أن يتأمل الظروف التي مر بها شريطة أن يفصل بين التميز الدراسي والتفوق الوظيفي، وما أكثر ما شهدنا من نماذج للتفوق والتميز، فإذا لفحات الشمس الحارقة في زحام الحياة تعيدهم إلى حظيرة الواقع بعيداً عن الأحلام.
* خامساً: إن مشكلتنا هي الاهتمام بالمظهر دون الجوهر، لذلك تشدنا نتائج الامتحانات من دون أن نبحث في العائد الحقيقي من ورائها، ولذلك شاع التعبير المعروف (مصر بلد شهادات)، وذلك نتيجة ارتباط المؤهل الدراسي بالوضع الاجتماعي، وهو أمر ليس ضرورياً في كثير من الثقافات الأخرى، ولكنه استقر في اللاوعي المصري حتى أصبحت هناك مظاهر مختلفة بدءاً من الزواج، وصولاً إلى عضوية النوادي تبدو مرتبطة بالمؤهل الدراسي، وقد يكون لذلك بعض التبرير، ولكنه ليس بالضرورة أيضاً شرطاً للتميز، ونحن نظن بصدق أن اهتمامنا بالشكليات قد سلب منا الاهتمام بالجوهر الحقيقي للأمور. فلم يعد هناك اهتمام لدى العامة بطبيعة العملية التعليمية أو المستوى الدراسي، ولكن المهم هو أي شهادات يمكن الحصول عليها والاستفادة منها، حتى أصبحت الدرجات العلمية مثل الدكتوراه والماجستير وغيرها أدوات مظهرية قابلة للشراء أحياناً. إننا نواجه أزمة ضمير حقيقية تجاه المسألة التعليمية والعملية التربوية، ولا ينبغي تجاهل ذلك أبداً.
إنني أؤكد هنا وبغير تردد أن العلاقة بين التفوق الدراسي والبحث العلمي مفقودة لدينا، ولا يمكن الوصول إليها إلا بعملية تحديث شاملة للعقل المصري قبل كل شيء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"