بريماكوف والجنزوري.. أزمة «رجل الدولة»

00:21 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السناوي

بدا مثيراً للالتفات والتساؤل عن مغزى أن يتصدر تمثالٌ لرئيس الوزراء الروسي الأسبق «يفجيني بريماكوف» مدخل السفارة الروسية في القاهرة مشاراً إليه ب«رجل الدولة».

بصورة مقاربة يمكن إطلاق الصفة نفسها على رئيس الوزراء المصري الراحل «كمال الجنزوري». كلاهما صعد إلى منصبه في ظروف استثنائية ناقضت اعتقاداته وانحيازاته.

 لم يكن «بريماكوف» مستعداً أن يتماهى مع مشروع تفكيك الدولة، أو أن يتقبل حكم المافيا، التي بدأت تحكم قبضتها على الاقتصاد والإعلام إثر انهيار الاتحاد السوفييتي السابق.

حاول بقدر ما يستطيع ضبط الأداء العام على فكرة بناء الدولة، لكنه اصطدم بحقائق القوة الجديدة، وخرج من السلطة شبه مطرود، بعدما كان مرشحاً قوياً لخلافة «بوريس يلتسين» في الكرملين.

 عند أول زيارة قام بها للقاهرة، التي عمل بها لسنوات طويلة مراسلاً لصحيفة «البرافدا»، فكّر أن يطل على شارع «شجرة الدر» بحي «الزمالك»، حيث كان يسكن في ستينات القرن الماضي.

 في تلك الزيارة التقى عدداً من كبار الصحفيين المصريين، الذين تربطهم به صداقات قديمة، في النادي الدبلوماسي بالقاهرة، بدعوة من الدكتور «أسامة الباز» المستشار السياسي للرئيس.

بعبارة انطوت على مزيج من الود والعتاب بادره صديقه القديم الكاتب الصحفي «محمد عودة»: «ضيعتوا البلد يا بريماكوف»، قاصداً ما جرى في موسكو من تطورات وانهيارات، على ما روى لي الدكتور «سامي عمارة» أبرز المراسلين المصريين بالعاصمة الروسية، الذي تابع الواقعة المثيرة.

 اتهامات مماثلة لاحقت الدكتور «الجنزوري»، الذي تولى رئاسة الحكومة في عهد «مبارك» بين عامي (1996) و(1999)، عندما أسندت إليه مجدداً بعد ثورة «يناير».

كلاهما، «بريماكوف» و«الجنزوري»، حاول دون جدوى وقف النزيف الداخلي منتصراً لفكرة الدولة.

 الأول، بإرث الحزب الشيوعي السوفييتي الذي يناقض التوجهات الجديدة. والثاني، بإرث مدرسة التخطيط المصرية التي تجافي ما يحدث من تحولات وسياسات باسم «الإصلاح الاقتصادي».

 لم يكن «يلتسين» و«مبارك» مستعدَّين أن يكون بجوارهما رجل ثانٍ قوي، معتدّ بنفسه، يمارس صلاحياته كرئيس للحكومة من موقع الشريك في صناعة القرار.

في الحالتين طرد «رجل الدولة» بفائض الضجر من شخصيته القوية، ورد اعتباره بعد سنين لم تطل.

 خلف «بريماكوف»، الذي تولى رئاسة المخابرات قبل أن تسند إليه رئاسة الحكومة، رجل المخابرات الشاب «فلاديمير بوتين»، الذي لم يخفِ في أي وقت تأثره وإعجابه به، وعمل على تكريمه بعد رحيله أكثر من أي شخصية سياسية روسية أخرى.

 تجربة «الجنزوري» اختلفت من زاويتين. الأولى، قدر التشهير الذي تعرض له عندما خرج من السلطة عند نهاية تسعينات القرن الماضي بطريقة مهينة غير مبررة، والعزلة التي فرضت عليه، لا يدعى ولا يستقبل في أية محافل عامة. والثانية، عودته إلى موقعه على رأس الحكومة بعد انقضاء عهد «مبارك» إثر ثورة «يناير» (2011).

 في بلد كمصر فإن المسؤول يُقال ولا يستقيل، وعندما يخرج من السلطة لا يعود إليها إلا نادراً.

 صلب مشكلة «الجنزوري» مع «مبارك» قدر اعتداده بنفسه. بعد إطاحة المشير «عبدالحليم أبو غزالة» وزير الدفاع الأسبق لم يسمح «مبارك» ببروز شخصية أخرى تشاركه الحكم والقرار.

 على عهد «مبارك» جمعته بالمشير «محمد حسين طنطاوي» صلات ودّ.. العمر متقارب، الطباع الشخصية تميل عنده إلى انضباط الأرقام والحسابات، والحزم في العمل، وهي طباع تقترب من شخصية رجل الضبط والربط والالتزام في التنفيذ. ربما لهذا السبب مال من موقعه رئيساً للمجلس العسكري إلى ترشيحه لخلافة الدكتور «عصام شرف» في رئاسة الحكومة.

 لم يكن «الجنزوري» مرشحه الأول، عرض خلافة «عصام شرف» على آخرين قبله، آخرهم طلب فسحة من الوقت لاستشارة عائلية، وعندما أبلغ «المجلس العسكري» بموافقته كانت رئاسة الحكومة قد ذهبت إلى «الجنزوري».

 جماعة «الإخوان المسلمين» اعترضت على الأسماء التي جرى التداول فيها واحداً إثر آخر، واستقرت على دعمه في النهاية، لم يكن هناك بديل آخر.

بدأ الصدام مبكراً، فالجماعة تريد أن تهيمن على مفاصل الدولة، و«الجنزوري» يمانع في أهدافها. قرر أن يتصرف على طريقته، أن يكون حازماً ومباشراً. هكذا لوّح بحل البرلمان أمام «سعد الكتاتني»، الذي كان يتولى رئاسته.

كانت تلك معركة كبرى، تبدت فيها طبيعة شخصية «الجنزوري». 

 بعد مساجلات داخلية استقر أمرها على إزاحته؛ حتى يمكن «التكويش» على السلطة كاملة.. كان ذلك خطأً فادحاً أفضى إلى ما أسميته وقتها: «دولة الهواة»، التي تقوّضت بعد عام واحد.

إذا ما قُدّر أن يُلَخَّص «الجنزوري» في جملة واحدة، فهو ك«بريماكوف»: «رجل الدولة».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"