غضب المسؤولون فتحدثوا لغة خشنة

02:56 صباحا
قراءة 4 دقائق
سأل مذيع الفضائية أحد المسؤولين الذين شاركوا في اجتماعات وزراء الخارجية العرب الأخيرة، عن الفارق بين البيان الختامي الصادر عن هذه الاجتماعات، والبيانات الأخرى الصادرة عن الاجتماعات السابقة.

قال الرجل بكل ثقة: إن هناك فرقاً كبيراً، لقد صغنا البيان الأخير بلغة خشنة شديدة.

بعد ساعات أعلن الأمين العام للجامعة العربية، في تعقيبه على اجتماعات وزراء الخارجية أنفسهم، أنه غاضب، وكرر الكلمة مرتين أو ثلاث مرات.

قلت لنفسي ماذا جرى في هذه الأمة.. لغة خشنة قاسية، وموقف غاضب، الحمد لله حمداً كثيراً أن بدأ الغضب يعرف بعض طريقه إلى الحالة العربية الميؤوس منها، وها هو الغضب يعبر عن نفسه في صياغة البيان المذكور بلغة خشنة، منيت النفس بانتفاضة عربية تبتلع حبوب الشهامة والكرامة، وتغضب حين تتعرض مصالحها للخطر وترفض المواقف والسياسات المفروضة عليها غصباً.

من باب التثبت، راجعت النص المنشور للبيان الغاضب المصاغ بلغة خشنة، فلم أجد خشونة في اللفظ ولا تشدداً في المعنى، ولم أجد تغييراً جذرياً في المواقف السياسية التي تتحكم في الساحة العربية منذ سنوات، ولم أجد مبادرات جريئة تطرح عبر البيان لاقتحام المعضلات الرئيسية التي تئن ظهورنا من ثقلها.

وبالتالي لم أفهم بالضبط سر غضب الأمين العام للجامعة العربية، ولمن وجه غضبه، هل وجهه للعدو أم للصديق، هل وجهه لزملائه وزراء الخارجية العرب العاجزين عن صياغة سياسات عربية جديدة، أم وجهه لنفسه باعتباره المنسق العام لهذه السياسات قديمها وجديدها، الذي عولت الجامعة على حنكته ونشاطه ومبادراته الكثير.

وتصورت لوهلة أن وزراء الخارجية العرب قد وجهوا رسالة غاضبة خشنة المعنى والمبنى للولايات المتحدة الأمريكية، راعية السلام وقائدة الحرب في عالم اليوم، يطالبونها بسرعة إيقاف لعبة الخداع الجارية باسم تحقيق التسوية السلمية الشاملة، وإقامة دولتين فلسطينية وإسرائيلية، وفق ما يسمى رواية الرئيس بوش، ويطلبون منها بحزم الشجعان، إما إعلان خطوة عملية خلال الشهرين المتبقيين في حكم بوش، وإما إعلان الفشل اليوم قبل الغد، وتحميل إسرائيل المسؤولية، بعد أن أثبت العرب نيتهم الحسنة وقدموا كل التنازلات المطلوبة.

***

وتصورت أن وزراء الخارجية العرب وجهوا رسالتهم الغاضبة أيضاً إلى الدولة الصهيونية لإيقاف تلاعبها الفج بالسلام وبالعرب والعالم على نحو لم يعد مقبولاً من أحد، وتصورت أنهم طالبوها إما بالتفاوض الصريح وفق المبادرة العربية الصادرة في قمة بيروت، وهي التي يرى فيها الكثيرون فرصة حقيقية لسلام حقيقي، وإما إغلاق الملف التفاوضي الآن على الأقل، حتى لا يظل الرئيس الفلسطيني محمود عباس يلهث ما بين رام الله والقدس سعياً للقاء أولمرت، الذي لم يفعل شيئاً إلا استقباله بالأحضان.

وتصورت، من باب الخيال الجامح، أن وزراء الخارجية العرب وجهوا رسالتهم الخشنة الغاضبة إلى رؤسائهم العرب، تقول لهم، عفواً سامحونا، لقد فشلنا في تنفيذ سياساتكم المتناقضة، مثلما فشلنا في عدم تنفيذها، أيضاً بسبب كل ما تحمله من متناقضات صريحة ومخبوءة.. اعفونا من هذه المهمة الثقيلة، وابحثوا عن غيرنا.

ولم تكن الحقيقة كذلك بأي شكل من الأشكال، فحين تحريت الأمر قليلاً، تبين لي أن حكاية اللغة الخشنة كانت موجهة للفصائل الفلسطينية المختلفة، وأن الغضب نابع مما أحدثته الخلافات بين هذه الفصائل من شق الجسد الفلسطيني وإضعاف شديد للقضية كلها، حتى إنها تراجعت ليس فقط على الأجندة الدولية، ولكنها تراجعت أيضا على الأجندة العربية..

ولا عتاب على ذلك، لكن الأمر في نظرنا أعمق وأخطر من العتاب، كلنا غاضبون من الفصائل الفلسطينية، وخصوصا فتح وحماس، لدورهما في تعميق الانشقاق الوطني، وكلنا رافضون لاستمرار تردي الأوضاع وصولاً للتقسيم السياسي بعد الجغرافي، لما تبقى من الضفة الغربية وغزة، وكلنا ساخطون على أولئك الذين يعرقلون حتى الآن، إجراء حوار وطني معمق بهذه الحجة أو تلك.

لكن هناك فرقاً، بين غضب المسؤولين الممسكين بكل السلطات، وبين غضب الناس الذين لا يملكون سوى التعبير عن الغضب بعفوية وتلقائية تذهب أدراج الرياح بعد لحظات.. نحن من حقنا بل من واجبنا أن نغضب سخطاً على ما يجري في فلسطين ومن أبناء فلسطين، نغضب فنعبر بالرأي والكتابة وربما بالاحتجاج والتظاهر.

ولكن كيف يغضب المسؤولون عنا، وكيف يعبرون عن غضبهم، هل يفعلون مثلنا إبراءً للذمة، أم أنهم يعلمون كما نعلم أنهم يملكون السلطة والقوة والنفوذ الذي يستغلونه في التعبير عن الغضب حين يريدون والذين يجب أن يستغلوه في صياغة سياسات تعبر عن دول هي 22 دولة عربية، سرقت من عمر شعوبها أكثر من ستة عقود، باسم الدفاع عن القضية المركزية، قضية فلسطين، فأين رست هذه القضية الآن؟

رست على شاطئ الغضب واللغة الخشنة، التي قيل إن وزراء الخارجية العرب قد تحدثوا بها، والمعنى الذي يمكن استنتاجه أن الوزراء تفضلوا فتحاملوا بالغضب والخشونة على ممثلي فلسطين في الاجتماع المذكور، باعتبارهم الطرف الأضعف، طالما أنهم عجزوا عن مواجهة الحقيقة في عينيها، وتوجيه نوبة الغضب وخشونة التخاطب إلى الفاعل الأصلي، إلى القاتل الحقيقي.

***

إن دل ذلك كله على شيء، فإنما يدل على تأكيد ما سبق أن ذكرناه، وهو التراجع العربي الفاضح عن التصدي للقضية الفلسطينية بالجدية والتركيز والإخلاص، الذي يشعر العدو والصديق أننا جادون في التوصل إلى نهاية مقبولة ومعقولة للصراع العربي الصهيوني، حقاً لما تعد هذه القضية في بؤرة السياسة العربية، إلا شكلاً وتظاهراً، بينما بحثت كل دولة عربية عن بؤرة أخرى تضعها نصب أعينها، وتصوغ من حولها سياساتها وتحالفاتها الإقليمية والدولية.

وأحسب أن تفكيك الاهتمام بالقضية الفلسطينية، كان نقطة البداية لدفعها إلى الوراء، فانصرف عنها المنصرفون، وبقي من حولها التحالف الإسرائيلي الأمريكي ينهشها قطعة قطعة، قطعة من الأرض وقطعة من التاريخ، قطعة من المقاومة وقطعة من الذاكرة، قطعة من الضفة وقطعة من غزة، وغداً لن تبقى إلا الذكرى.

كان ولا يزال بعض المؤرخين العرب، يعتبرون سقوط الأندلس وانسحاب العرب أمام جحافل الفرنجة، أكبر وأفدح مأساة في التاريخ العربي والإسلامي، وظلوا على مدى نحو خمسمائة عام يبكون هذه المأساة، ومن يذهب اليوم إلى بعض مدن المغرب، وخصوصاً فاس سوف يلاحظ أن معظم العائلات يحتفظون بمفاتيح بيوت أجدادهم المطرودين من الأندلس، ويسميها البعض مفاتيح الوهم.

أخشى أن يسلمنا هذا النظام العربي الغاضب مظهراً المستكين مخبراً إلى المأساة الفلسطينية الأفدح من تلك الأندلسية، وينتهي الأمر بكل أسى إلى تعليق مفاتيح الوهم على حوائط الذكرى.

***

** آخر الكلام:

ماذا تعني الحياة، إذا غاب بريقها، بغياب أعز من فيها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"