الرواد.. والاعتراف بالفضل

03:33 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.مصطفى الفقي

تستهويني بشدة، محاولات متكررة للتأمل في أولئك الذين بدأوا المشوار من نقطة الصفر مع البشرية كلها، أفكر في رواد الطيران، وفي رواد صناعة السينما، وفي كل من بدأ عملاً لم يكن له وجود، فأولئك هم بحق الرواد الذين يجب أن نعترف بفضلهم، وأن نتمثل أساليب حياتهم، فنحن نعرف جميعاً تجربة عباس بن فرناس للطيران بجناحين، وكيف لقي حتفه، ولكن الذين ركبوا أول طائرة، وأولئك الذين عبروا بها المحيط أول مرة، يستحقون الإكبار،والتقدير، لأنهم كانوا بحق رواداً في ما فعلوا، وأتذكر جسارة الفتاة المصرية التي كانت أول قائدة لطائرة منذ قرابة ثمانين عاماً، وأتأمل في أولئك الذين كانوا لا يهابون الموت، ويقدمون على تضحيات كبيرة من أجل اكتشافات توصلوا إليها، أو أفكار آمنوا بها، وأزعم أن تضحياتهم الكبيرة هي التي عبّدت طريق الإنسانية نحو النهوض، والارتقاء. أتذكر ريادة نيوتن، وأديسون، وقبلهما جوتنبرج، وقبل هؤلاء وأولئك أذكر أعلاماً وفلاسفة من أمثال سقراط، وأرسطو، وأفلاطون، وعلماء موسوعيين من أمثال ابن سينا، والفارابي، والخوارزمي، والحسن بن الهيثم، وغير هؤلاء وأولئك قافلة طويلة من رواد التنوير الذين رصّعوا سماء الدنيا بنجوم زاهرة لا يزال وميضها يشع نوراً حتى اليوم، قد يكون من السهل أن نتمثل ما فعلوه، وأن نتحدث عنه كما لو كان أمراً طبيعياً ومقبولاً، ولكن حين نضع أنفسنا في ظروف من فعلوه، والتوقيت الذي أحاط بهم، لابد أن ندرك أهمية ما جرى.. كيف كان شعور رواد الفضاء الأوائل وهم يغلقون عليهم كبسولة تحلق بهم في الفضاء اللانهائي في رحلة لا يعلم إلا الله منتهاها؟ لقد عرفنا الإحساس بالذنب الذي أصاب ألفريد نوبل بعد اختراعه الديناميت على نحو أدى إلى ميلاد جائزة نوبل، بأهميتها، وقيمتها حتى اليوم، ولا أعلم تحديداً كيف كان شعور البرت أينشتاين يوم وقوع التفجير النووي على هيروشيما، ونجازاكي، وهل شعر أب القنبلة الذرية بوخز ضمير؟
علينا أن نسجل الملاحظات الآتية:
أولًا: لو تمثلنا مشاعر الإرهابي الانتحاري الذي يفجر نفسه ليقتل من حوله لوجدنا شعوراً يختلط فيه الفكر المضطرب، والشخصية المريضة، وعملية التلقين طويلة المدى التي تجعله رائداً في الجريمة ولا يدرك مأساة ما يفعله، ويتصور أنه في رحلة نحو النعيم، وحور العين، فكما أن هناك رواداً يرتقون بالبشرية، فإن هناك رواداً آخرين اخترقوا حجب الإجرام، وجروا الإنسانية إلى الكوارث، فالريادة سلاح ذو شقين، ولكن دعنا نكرس ما نكتب حول الجانب الإيجابي للريادة بمعناها الإنساني والعلمي والأخلاقي.
ثانياً: مهمتنا الحقيقية هي أن نؤكد عالمية الريادة وتوزيع الاستحقاق الإيجابي لها على الجنس البشري كله، فنحن جميعا ننعم بركوب السفن العملاقة، والطائرات الحديثة، ونستخدم الاختراعات البخارية، والكهربائية، والإلكترونية، وقد لا نتذكر الرواد العظام الذين وقفوا وراء هذه الاكتشافات الهائلة، والاختراعات العظيمة، لأنها في النهاية وحدة الجنس البشري، والشراكة في مسيرة إعمار الكون الذي ننتمي إليه جميعاً، يا ترى كيف كان يفكر أول من اخترع العجلة، واستخدمها في الكر، والفر، والحرب، والسلم؟ وكيف كان شعور من اخترع الكهرباء وهو يرى أول ضوء يحيط به من بنات اكتشافه؟
ثالثاً: إن الذين يجادلون في أهمية الريادة يتصورون أنها الحركة التلقائية للتاريخ، ولا يدركون أن النبوغ الفردي قد أسهم إسهامات واسعة في هذا الشأن، كما أنهم لا يتأملون اللحظات الصعبة وروح المغامرة الجسورة التي أدت إلى إحراق بعض الرواد، خصوصاً في الفلسفة والرياضيات واتهامهم بالمروق والزندقة فدفعوا حياتهم ثمناً لتقدم مسيرة الإنسان، حتى إن رفضهم من حولهم في زمانهم.
رابعاً: لا أنسى ما قاله لي شخصياً د.هانز بليكس الذي كان وزيراً لخارجية السويد قبل ذلك أنه عندما أمضى في منصبه مديراً للوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا أكثر من ستة عشر عاماً طلب منه بعض أصدقائه السعي لتجديد مدته فطلبت منه ابنته الكبرى أن يصاحبها في رحلة سيارة لمدة تقل عن ساعة، فخرج معها فاتجهت به نحو منطقة المقابر في المدينة التي يعيشون فيها، وقالت له إن على شاهد كل قبر مكتوب أن صاحبه كان يتطلع إلى منصب معين، أو الحصول على ميزة محددة، فاعلم يا والدي أن الريادة هي ما انتهى بها أمرك، وليست ما تتخيله من البقية الباقية من عمرك. وقد ظلت أصداء كلمة بليكس ترن في أذني اليوم بعد أكثر من ثلاثين عاماً.
إن الريادة في كل المجالات أمر يستحق التقدير والاحترام، شريطة أن تكون ريادة إيجابية، وليست ريادة الإجرام.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"