ماذا يريدون؟

02:28 صباحا
قراءة 4 دقائق
تمر الأوقات ثقيلة علينا في انتظار وقفة تنم عن رحمة لإخوتنا وأخواتنا وأبنائنا وآبائنا الذين يرزحون تحت طغيان الصهيونية، بعضهم قضى تحت نير الظلم، وبعضهم ينتظر، أوقاتنا في هذه اللحظة تثقلها نتاج الحملة الشرسة التي افترشت غزة بأشواكها السامة وأصواتها القبيحة قبح الأعذار، والمبررات التي تساق لإقناع العالم المتفرج المتأثر بأن قتل الأطفال سياسة لابد منها لحماية دولة مغروسة في عمق واقعنا العربي حيث أصبحت شراً لابد منه لدى البعض . . وحتى هذا ال "لابد منه" غير مقنع ل "إسرائيل" في أن تكف أيديها عن التوغل في حياة إنسان هدماً وتدميراً .
كان مقياس الفروسية والشجاعة في الأزمنة الغابرة مواجهة الفرسان وجهاً لوجه . . على أن يكون من تواجهه فارساً لا يقل عنك في القوة والشجاعة، وهو مقياس عالمي طبق في كل الحروب، لكن وجد في زماننا من لا يعي هذا المقياس في الرجولة والفروسية، فاختار أن يواجه الرجل والمرأة والطفل بإمطار رؤوسهم بأحقاد متفجرة من أعماق المصالح . . وبشجاعة منقطعة النظير، وبفروسية خاصة جداً لا شبيه لها في أي زمان إلا زماننا هذا، الذي وجد في القضاء على حياة المستضعفين قمة الانتصارات، وذروة الأمجاد، وأعظم الإنجازات . . لا أتطرق إلى سياسة ولكنني أتطرق إلى إنسان، لأن السياسة غموض مجهول وضباب لا تتضح من ورائه ولا من أمامه أية لغة يمكن فهمها، فهي تسير على أهداف لا يفهم صعودها على أجساد غضة وأحلام بريئة لتحقيقها . . كحلم أب في أن يرضي أهله ويرى الابتسامة على وجوههم بجهده الذي يوفر فيه بعض كرامةٍ وأمان لهم في ظل احتلال طال وطال، واستبقى تحت نيره أجيالاً . . وموقداً لا يزال محمود درويش الشاعر يشم عبير أمه وقهوتها فيه . .
ماذا يريد المعتدون من أصوات الأطفال الشاردة في أفق أضاءته طفولتهم في غفلة من واقع مرير يعيشونه كما عاشه آباؤهم وأجدادهم وآباء أجدادهم؟ ما حاجته من بيت تسكنه أسرة لا هم لها سوى الحياة في ظل إيمانها بما يقضيه ربها ومن ثم الستر والعيش الذي يقيم الصحة والعافية كي ينعموا نعيماً يعرفون أنه مهدد في أي لحظةٍ طالما أن هناك جرارات جاثمة على صدر الأرض، وآليات تهدد حياة الإنسان؟
هل هذا الكيان قوي إلى هذا الحد بحيث يتخذ بنفسه قرار البدء في تسيير آليات تدميره، وبنفسه يتخذ قرار إنهائه من دون تدخل يؤثر فيه أو مواقف أقوى منه؟
هل هو القوة العظمى في حقيقة الأمر لا سواها؟
إن القوة المتعنتة الغاشمة ليست فقط في امتلاك آليات تكره السلام والمسالمين فتنقض في حالة من الجوع المتوحش للقضاء على أخضر السلام ويابسه، بل في هذا اليباس في التمسك بالموقف، والتعنت فيه، والاستمرار على طريقه مهما كانت الانتقادات، ومهما كانت المواقف المستنكرة قولاً وفعلاً، ومهما تواصلت الأصوات الرافضة وارتفعت اللافتات الزاجرة، واستحضرت الأقلام من التاريخ وقائعها التي لن تمحى .
كم علينا أن نرى الرعب في وجوه أطفال فوجئوا بفقدهم قيمة الأمان في لعبهم ولهوهم فارتجفت ملامحهم وهم ينتظرون عودة عالمهم بعيون مبتلة بدموعٍ يعتقدون أنها ستجلب رحمة العالم بهم، وبالتالي سينجدون بعد أول طلقة ظلم في صدورهم؟ كم علينا أن نرى أماً شاردة في طريق الدمار تبحث عن مأوى لها ولأطفالها وقد كانت منذ لحظات في بيتها تؤدي عملها النمطي المعتاد، والمضمخ بالحنان والحب؟
كم علينا أن نشاهد انهيارات الأقرباء رجالاً ونساءً لمشهد رحيل الولد أو الأب أو الجار أو الأخ أو ابن العم أو ابن الخال أو الصديق . . أفراداً وجماعات، وأن نشعر بالقهر الدامي في غمضة عيونهم وانطواء أصابعهم في أكفهم وخلجات ملامحهم التي تنبت منها تجاعيد الغضب وصرخة لا يسمعها إلا الله . . رغبة في تخفيف وطأة القهر في نفوسهم .
كم علينا أن نرى الأسرة المتحركة تجري بمن نحسبهم شهداء عند الله، وبالجرحى والمكلومين نحو مصائرهم . . وأن نرى مدينة كانت مدينة إنسان فسكنتها أشباح الخوف والهلع وانتظار القادم وما يأتي به من صور أكثر إيلاماً؟
كم على قرارات أصحاب القرار أن تتباطأ . . وكم علينا أن ننتظر . . وينتظر أقسى من انتظارنا طفل يسيل الدم على وجهه، والصراخ من فمه، والهلع من قلبه؟
نعم يحتاج هؤلاء الذين تجري دماؤهم في عروق إلى الدواء والمستشفيات المتحركة وقوافل الغذاء والماء . . وهي حاجة ضرورية ملحة ومهمة . . تخفف عنهم هذا العذاب الطويل، وهي أقل ما يمكن أن نقدمه ونسعى لتقديمه، ولكن الحاجة الأكبر هي الحاجة إلى وطن، أمان واستقرار وسلامٍ إلى كرامة سلبت بسلب الأرض واحتلال الوطن واجتياح المخططات الاستيطانية رغم الأنف الكبير في وجه العالم كله، وأمام أعينه الجاحظة .
الآن وقد انسحبت الأقدام التي لم تترك حقاً ولا عدلاً إلا ووطئته . . ترى، هل علينا أن ننتظر دورة اعتدائية أخرى حتى نعود إلى الأسئلة بكل ما فيها من أوجاع؟ أسأل الله ألا يري أهلنا كابوساً آخر لا في اليقظة . . ولا حتى في الحلم .


صالحة غابش

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"