عندما تتحكم الأزرار بالأعمار

05:37 صباحا
قراءة 3 دقائق

أزرار . . . أزرار! كل لحظة من مسيرة حياتنا صارت تدار بالأزرار! إذا ما أردنا أن نرفه عن أنفسنا ضغطنا على زر؛ لننقض على الأقنية المصممة لإبقائنا مسمرين أمامها لساعات . وعندما نشعر بالوهن، تمتد أيدينا المجهدة، نضغط على زر لنشحن أجسادنا بالطاقة بالشكل الذي نريد، وبعد يوم عصيب، مشحون بالضغوطات نقلنا خلاله أصابعنا فوق ألف من الأزرار، نضغط على الزر الواحد بعد الألف فيحل الظلام . . نلجأ إلى الأسِرة، نلقي برؤوسنا التعبة على الوسادة ونغط في نوم عميق .

لكن تحكم الأزرار في حياتنا لايتوقف عند هذا الحد، فالأزرار التي ابتكرناها لتسهل أمور حياتنا لاتهدأ مع إغماضنا أعيننا، بل تواصل تحكمها فينا إلى أن تتوقف أنفاسنا تماماً وتنطفىء جذوة الحياة فينا .

منذ فجر التاريخ، عرف الإنسان الحروب التي كانت تندلع لأتفه الأسباب أحياناً، وكان انتصار فئة على أخرى يقاس نسبياً بكميات الدماء التي تراق في سبيل الدفاع عن قضية ما، كان المقاتلون يواجهون أعداءهم بالبندقية، يدققون النظر ثم يضغطون على الزناد فيقنصون من يريدون قنصه، أما اليوم، فقد باتت العملية مقتصرة على لمسة زر واحدة، ومن الغاية الحميدة التي ابتكرت من أجلها الأزرار، انتقل همّ الإنسان إلى تصنيع وشراء الأسلحة المتطورة التي تعتمد على التكنولوجيا الحديثة لحمايته من أعدائه كي يعيش في أمن وأمان .

وها هي الدول تنفق مليارات الدولارات في سبيل الحصول على هذه الأسلحة، لكنها بدلاً من أن تشتري الأمن والسلام راحت تشتري وتبيع أرطالاً من الدماء .

وازدهرت تجارة الأسلحة أكثر فأكثر، وصنعت طائرات من دون طيار تقاتل بالنيابة عن البشر، وصار بالإمكان إلحاق الهزيمة بالعدو والقضاء عليه في عقر داره بلمسة زر واحدة! طائرة من دون طيار هي خيار الولايات المتحدة القتالي الذي استخدمته في العراق وفي أفغانستان وباكستان وتستخدمه اليوم في اليمن .

وليست أمريكا وحدها من يلجأ إلى هذا الخيار، فإسرائيل أيضاً ترسل طائرات من دون طيار لتحلق في سماء غزة، وإذا أردت أن تتأكد من ذلك ما عليك سوى سؤال أهل القطاع عن تلك الدبابير المعدنية التي تئز فوق رؤوس الناس وتكاد تقتلع قلوبهم هلعاً .

تفيد مؤسسة أمريكا الجديدة أن الولايات المتحدة قامت خلال عام 2010 بأكثر من مئتي طلعة جوية بطائرات آلية لمطاردة تنظيم القاعدة وحركة طالبان . ولقد قضى في تلك الغارات الكثير ممن استهدفتهم الطائرات، وبما أن الطائرة التي تقصف من دون طيار آلية ويجري التحكم بها عن بعد وبلمسة زر واحدة، فإنها تستهدف مواقع أكثر مما تستهدف أشخاصاً . وبذلك تبقى أسماء القتلى وأعدادهم غير واضحة تماماً، لأن الطائرة التي يجري التحكم بها عن بعد والتي تعمل من دون طيار، لا تحدد العدو لا شكلاً ولا فعلاً، فتحصد بدربها أبرياء لا ذنب لهم سوى أنهم وُجدوا في الموقع المستهدف! هي مجرد آلات يطلق عليها: الطائرات المفترسة أو الحاصدة، لأنها تفترس الناس وتحصد أرواحهم بلمسة زر واحدة .

إني أرى أن هذه الطائرات سلاح اختياري، ليس فقط لأنه يمكن إطلاق أعداد هائلة منها، كما تفعل الولايات المتحدة التي ترسل طائرات من دون طيار إلى معظم بلدان العالم، لكن لأنها، على عكس البشر، لا تعذّب الأسرى، ولا تتبوّل على القتلى ولا تسجل أعمالها البطولية على أشرطة فيديو! ولأنها أيضاً لا تتفنن في التعذيب النفسي ولا تتخذ من الظلم شريعة لها .

لأجل هذا، لا تشعر الحكومة في الولايات المتحدة بالقلق، فلا حاجة لتعتيم الخبر ولا حاجة لإجراء محاكمات عسكرية .

فالطائرات من دون طيار باتت حلاً عسكرياً مثالياً . لقد قررت الولايات المتحدة مؤخراً، أن تنقل هذه التكنولوجيا إلى أراضيها، فقد أقر الكونغرس مشروع قانون يسمح للطائرات من دون طيّار بأن تحلّق في السماء فوق رؤوس الناس . وتشير التوقعات إلى أنه بحلول عام ،2020 سيصار إلى إطلاق قرابة ثلاثين ألف طائرة من دون طيار في المجال الجوي الأمريكي . إذا كان قتل المدنيين الأبرياء بالروبوتات الطائرة منطقياً، وإذا كانت مقولة الغاية تبرر الوسيلة مبدأنا اليوم، فإن التجسس على شعبكم أمر منطقي أيضاً! لا يجب أن يكون قرار الحرب سهلاً على البشر، وقبل خوضهاً، يستحسن التفكير ألف مرة ومرة، فالحروب تضع الإنسانية أمام الاختبار، اختبار الإيمان والعزيمة، ولا يجب أن تكون على الإطلاق حلاً لكل مشكلاتنا .

ولكن الحروب لم تعد صعبة بعد الآن، فلهجة الحرب تطغى اليوم على أدبيات التخاطب بين الحكومات حول العالم، ولقد أصبحت الحروب رداً على أي تهديد يمكن أن تتعرض له دولة ما . لقد خذلتنا الكلمات وانتصرت علينا الأزرار .

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"