حرية الصحافة وصحافة الحرية

05:27 صباحا
قراءة 4 دقائق

خلال عقود من الزمن، كانت شعوب بلدان عديدة في العالم العربي، تزحف نحو مستقبلها ببطء تحت رحمة أنظمة مستبدة أساءت إلى سمعتها، كبلتها بأيدٍ حديدية وعرضتها لشتى أنواع الظلم والاضطهاد . أجيالٌ أُجبرت على العيش في أجواء الفساد والجشع، ولم تستطع حتى رفع رؤوسها للمطالبة بمستقبل مشرق يحفظ كرامتها . ولقد كاد جيل اليوم يحذو حذو آبائه فيبقى صامتاً على الظلم لولا مشيئة الله في تغيير الأحوال بين عشية وضحاها، وبث روح الأمل في شعوب كادت تفقد الثقة بنفسها وبقدرتها على النهوض . . . وهبت عاصفة التجديد والتغيير على بعض بلدان المنطقة العربية دون سابق إنذار، فاقتلعت الظلم وأهله .

إنه إعصار عربي أيقظ العالم من سباته فصحا مذهولاً ومصدوماً . . . ورويداً رويداً أدركت الشعوب أنها لن تعود إلى الوراء، وأن زمن السكوت على الظلم لن يرجع . . . إنها انتفاضة الحق على الباطل التي لم يخرج منها عالمنا العربي دون إراقة دماء على أرض المعركة، لكنها صنعت أبطالاً شرفاء لا يخافون لومة لائم . وكما يحدث بعد هدوء كل عاصفة، سوف تتضح بعد التغيرات العربية معالم كثيرة، وسوف تُسطر فوق الأنقاض وآثار الخراب والفوضى، خطوط مستقبل جديد يحمل مصطلحات جديدةً يُنسج منها واقع أكثر إشراقاً ووضوحاً . ما حدث لم يكن في الحسبان، فقد انقلبت معايير كثيرة في عالم السياسة حتى صارت ملامحه غريبة عنا، فالتغيير لم يمس الحكم فقط وإنما طال فروعه وامتداداته . . . لكن، أين هي الصحافة من كل هذا؟ أوليست فرعاً من فروع الحكم والسلطة الرابعة في التسلسل؟

إن الإعلام قادر على التأقلم وعلى تغيير نفسه بنفسه، فلا داعي للقلق . ولقد ارتدى الإعلام في عالمنا العربي ثوباً جديداً يشعر فيه بالحرية التامة، فلا أجندات سياسية تفرض نفسها عليه، ولا بيروقراطية تخنقه وتكتم أنفاسه . . . فالتغيرات أحيت في السلطة الرابعة جذوة حرية كادت تنطفئ فيها، وصراحةً كادت تندثر في عالم النسيان . في الواقع، لم تنم السلطة الرابعة تماماً، لكنها كانت في غيبوبة أجبرت عليها مرات عدة . ويشهد التاريخ أن الإعلام كان بين فينة وأخرى يفتح عينيه وينهض مناضلاً من أجل الحرية وإعلاء كلمة الحق، لكنه كان في كل مرة يعود إلى ما كان عليه وكأنه مرغم على النوم تحت تأثير تنويم مغناطيسي!

إن الإعلام العربي لا يعاني وحده من التخدير المرحلي، لكنه يغرق في سباته سنين طويلة وكأنه مستأنس بالنوم، ولم يكن يهتز إلا على وقع أحداث مجلجلة تعيد إليه حس المسؤولية، أما اليوم فقد اختلفت أمور كثيرة، وصحا إعلامنا على صخب التغيرات المطالبة بالحق .

لقد استيقظ الإعلام العربي بكل وسائله، وخرج إلى الساحة حاملاً لواء الحق والعدالة، متسلحاً بشجاعة تليق به، وخاض بجرأة في مواضع وأمور كان من الممكن أن تجر عليه قبل بضع سنين ويلات كثيرة وتدفع به إلى الهاوية .

كثيرون كانوا متآخين قبل اندلاع الربيع العربي رغم اختلاف آرائهم، وها هم يتوحدون اليوم في مناصرة الحرية بشكلها الجديد من دون النظر إلى طبيعتها . لكن كلمة الحرية ليست عبثية، وأن تكون الصحافة حرة فهذا لا يعني أن لديها رخصة تخولها التحدث بأي شيء . فحرية الصحافة لا تعني التشهير والذم والقدح وشن الحروب على الآخرين، ولا تعني أن نختار من الحدث أجزاء نراها صحيحة من وجهة نظرنا بغض النظر عن آراء غيرنا . . .

قد يخيل إلينا أن الصحافة تعكس المشاعر العامة، لكنها في الواقع، تركز على أشياء وتهمل أشياء أخرى لمصلحة من فتك بهم الجشع وأعمتهم الشهرة . لذا يصعب، مع الأسف، العثور على من يروي الحقيقة كاملة من دون زيادة أو نقصان .

ليس من العدل أبداً أن نستخف بالصحافة العربية ونتهمها بالخذلان، كما لا يجب ألبتة أن نقارنها بالصحافة الغربية، فنحن نعمل في أجواء تختلف تماما عن الأجواء التي يعمل بها الصحافيون هناك . صحيح أننا نمارس مهنة واحدة، لكن قواعد اللعبة تختلف من بلد إلى آخر .

يقال إن الإعلام الغربي ينعم بحرية أكثر من الإعلام العربي، لكن علينا أن ندرك اختلاف مفهوم الحرية عندنا وعندهم . فقد يتبادر إلى ذهن البعض أن الحكومات في الغرب لا تتدخل في الصحافة، لكن الواقع غير ذلك ؛ فمن الناحية التقنية، ثمة شركات تضع يدها على وسائل الإعلام ويملكها أصحاب النفوذ ممن يتبوأون مناصب في الحكم أو من لف لفهم . لذا تتغير الاتجاهات الفكرية الإعلامية مع تغير الحكم في البلدان الغربية، كما أن الصحافة التي تُدرس في الجامعات والمعاهد ليست تلك التي تمارس على أرض الواقع، فهي أقرب إلى المثالية منها إلى الصحافة الفعلية .

إنّ المناورة في وسائل الإعلام في أيّ بلد من البلدان، ليست سوى نوع من الدبلوماسيّة ومحاولةٍ للتكيف مع الظروف، ومراوغة لإيجاد مخرج من متاهة التفاعلات الاجتماعيّة والسياسيّة التي تترافق مع المهنة .

ليس الأمر إذاً، عملية اختيار بين أبيض وأسود، أو بين صواب وخطأ، إنما يتعلق الأمر بعالم سياسي رمادي اللون نطلق عليه اسم الإعلام .

إن حرية الصحافة تعني التحرّر من الانحياز، بحيث تُروى جوانب الحدث كاملة، مع الاحتفاظ بالشعور بالمسؤولية . فالصحافة مثلها مثل الحكومة، تحمل مسؤولية البلد والشعب . وهي مسؤولة عن التقارير التي تنشرها . . وعلى القنوات الإعلاميّة أن تكون ملزمة بشؤون الناس الثقافيّة والاجتماعيّة، وأن تتعامل معها بحساسية، وإذا قلنا إن وسائل الإعلام عالميّة، فإن ذلك لا يعطيها العذر بألا تتفاعل مع القضايا الاجتماعية الحساسة بحذر . . .

يجب أن يكون دور الصحافة قائماً على التثقيف والتوعية، وليس الهجوم على الآخرين والإساءة إليهم . ومهما كان وضع الصحافة في العالم العربي حالياً، فإن وسائل الإعلام العالمية ليست حرة حرية مطلقة .

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"