منعطف تاريخي في العلاقات الأمريكية الأوروبية

05:20 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

منذ الحرب العالمية الثانية، قام حلف استراتيجي وثيق بين أمريكا وأوروبا، بعد أن أكّدت الولايات المتحدة وجودها كقوة عالمية منافسة بشدة للقوى الأوروبية التقليدية، وكانت هزيمة ألمانيا، ومعها هزيمة مشروعها الأوروبي، بداية نشوء بروتوكول المصالح والنفوذ بين أمريكا وأوروبا، حيث أصبحت أمريكا، بما تمتلكه من قوة متنامية، عسكرياً واقتصادياً، جزءاً رئيسياً من مفهوم الأمن الأوروبي، في مواجهة الاتحاد السوفييتي، وقد اعترفت أوروبا للولايات المتحدة، جراء إسهامها في الدفاع عن الأمن الأوروبي، بامتيازات اقتصادية كبيرة، في أوروبا وخارجها، سمح للولايات المتحدة أن تفرض توجهاتها السياسية والدبلوماسية على أوروبا، وهو ما مكّن أمريكا من دفع أوروبا إلى تبني حروب أمريكا في غير مكان من العالم، من دون اعتراضات قوية، أو باعتراضات لا ترقى إلى مستوى المواجهة مع واشنطن.
تباين المواقف بين أمريكا وأوروبا إزاء الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، يظهر توجهات جديدة لأوروبا على الساحة العالمية، ففي الوقت الذي تمضي فيه واشنطن إلى مواجهة النفوذ المتنامي لطهران في الشرق الأوسط، ووضع شروط جديدة أمامها، فإن أوروبا، وتحديداً عبر ألمانيا وفرنسا، تعلن عدم موافقتها على التوجهات الجديدة لواشنطن، وهو ما جاء في تصريحات لكبار المسؤولين في البلدين، خصوصاً بعد اللقاء الذي ضم عدداً من المسؤولين الأوروبيين مع جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي. وقد تطابقت مواقف الخارجيتين الفرنسية والألمانية إلى حد كبير تجاه الموقف الأمريكي، فقد صرّح وزيرا الخارجية في كلا البلدين بأن «العقوبات الأمريكية على طهران غير مقبولة»، مع تأكيدهما على «رفض معاودة طهران استئناف نشاطها النووي».
هل يمكن لأوروبا فعلياً المضي نحو افتراق كبير وحدّي مع السياسات الأمريكية في العالم، أم أن الأمر متعلق فقط بالاتفاق النووي مع إيران؟.
يستدعي هذا السؤال مباشرة السؤال حول قدرة أوروبا اليوم في حماية أمنها، ومدى كفاءة إمكانياتها العسكرية والاقتصادية والاستخباراتية في مواجهة تهديدات جدية، مثل التهديد الروسي، خصوصاً بعد التدخل الروسي في أوكرانيا، فهل أصبحت أوروبا جاهزة لأن تكون أكثر استقلالية عن أمريكا في الملفات الكبرى، أم أن المواقف الأوروبية الحالية هدفها الاحتجاج على سياسات واشنطن الجديدة في ملفات اقتصادية بحتة، مثل ملف الضرائب على الصادرات الأوروبية لأمريكا في مجالات الصلب والألمنيوم؟.
لقد أوضح مسار السنوات القليلة الماضية وجود مكامن خلل كبيرة في الاتحاد الأوروبي، حيث تمضي بريطانيا في طريق تنفيذ انسحابها من الاتحاد، وحقّقت روسيا اختراقات كبيرة في مجال الأمن المعلوماتي الأوروبي، واستخدمت القوة في فرض أمر واقع في أوكرانيا، بالإضافة إلى الخلافات الجوهرية حول مسائل اللاجئين، وازدياد الحساسية من الهيمنة الأمريكية في تحديد وجهة المصالح، كما في الاتفاق النووي مع إيران.
إذن، ما هو السيناريو الأكثر ترجيحاً في العلاقات الأمريكية - الأوروبية؟.
من الصعب، وفقاً لظروف حلف «الناتو» الراهنة، تصوّر أن تستطيع أوروبا التخلي عن فكرة التحالف العسكري/ الأمني الاستراتيجي مع أمريكا، وبناءً عليه، فإن واشنطن المدركة لحاجات أوروبا في الدفاع والأمن ستقوم باستخدام هذه الورقة كلما استدعت الحاجة لتذكير أوروبا بها، لكن أوروبا، وتحديداً، عبر القاطرة الألمانية - الفرنسية ستسعى إلى التفكير الجدّي في تعزيز الدفاعات الأوروبية بشكل مستقل أكثر فأكثر عن واشنطن، وهو ما يعني عودة الاهتمام بهذا الملف، وتخصيص ميزانيات أكبر له.
في هذا السياق، ستقوم أوروبا، نتيجة للحاجة المستقلة المتزايدة عن واشنطن، بتبني سياسات أكثر تنوعاً مع روسيا والصين، وهما القوتان المنافستان لواشنطن، وهو ما يعني انطلاق أشكال جديدة للصراع السياسي والدبلوماسي، والذي سيترك آثاره على ساحات عديدة للصراع في العالم، منها ساحة الشرق الأوسط، وبالتالي فإننا قد نشهد سياسات أوروبية أكثر استقلالاً وافتراقاً عن سياسات واشنطن في بعض ملفات المنطقة.
إن الخلل في بناء النظام الدولي بعد نهاية الحرب الباردة قد وصل إلى حد غير مسبوق، وقد دخل العالم القرن الواحد والعشرين من دون نظام دولي واضح المعالم، وإذا كانت أوروبا قد اعترفت ووافقت على قيادة أمريكا للعالم لحوالي ربع قرن، فإن تلك الموافقة تبدو قد استنفدت الكثير من المصالح والوقائع التي جعلتها أمراً واقعاً، ما يعني أننا أمام منعطف تاريخي جديد، ستحاول فيه أوروبا إعادة تأكيد ذاتها في النظام الدولي، وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً، لكن هذا يعني، وخصوصاً للشرق الأوسط، زيادة عدد المجاهيل في معادلاته على كافة الأصعدة، وخصوصاً في مجال الأمن والاستقرار.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"