مستقبل الاتحاد الأوروبي في وجود ترامب

02:34 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

لم ينس الأوروبيون يوماً بأن التدخل العسكري الأمريكي في الحرب العالمية الثانية أنقذهم من براثن النازية وأتاح لهم بناء ديمقراطيات سهرت الولايات المتحدة على حمايتها من هجوم سوفييتي محتمل طوال الحرب الباردة. كذلك فإن دول المعسكر الشرقي الأوروبي السابق تعترف بفضل واشنطن في مساعدتها على التحول الديمقراطي الذي أخرجها من الشيوعية وأدخلها في الليبرالية الديمقراطية قبل أن يساعدها على تكريس هذا التحول عبر إدخالها في حلف الأطلسي وفي الاتحاد الأوروبي. كما أن الأوروبيين يعترفون للولايات المتحدة بالفضل في دعم جهودهم الاتحادية منذ خمسينات القرن المنصرم وولادة المجموعة الاقتصادية الأوروبية، العام ١٩٥٧، وصولاً إلى معاهدة الاتحاد الأوروبي في ماستريخت، العام ١٩٩٢.
لم يفكر أحد من الأوروبيين أن يأتي يوم يعلن فيه رئيس أمريكي بأنه يتمنى تفكك اتحادهم ويهدد بعض دوله بعقوبات اقتصادية، هكذا مرة واحدة ومن دون مقدمات أو خلافات مسبقة. وحتى عندما بدأ المرشح الجمهوري دونالد ترامب التفوه بمثل هذه التهديدات، خلال حملته الانتخابية، لم يحمله أحد على محمل الجد. وبعد صدور نتيجة الاقتراع التي شكلت مفاجأة وصدمة لهم، اعتقد أوروبيون كثيرون بأن سياسات الرئيس الجمهوري ستختلف عن تصريحاته الانتخابية وبالتالي فلا خطر على العلاقة الأوروبية الأمريكية التي ستبقى على ما كانت عليه منذ عقود طويلة، علاقة تحالف مصيري وقيم غربية مشتركة.
قبل أيام قليلة من دخوله البيت الأبيض وفي مقابلة مع صحيفتي «تايمز» اللندنية و«بيد» الألمانية، في ١٥ يناير/كانون الثاني الماضي، كرر ترامب كلامه السابق عن أوروبا. في رأيه حلف الناتو تخطاه الزمن وهو عاجز عن مكافحة الإرهاب، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي شيء عظيم مع الأمل بأن تحذو دول أوروبية أخرى حذوها، كما هدد ألمانيا بوضع رسوم على سياراتها المصنوعة في المكسيك تصل إلى ٣٥٪..الخ.
شكل موقف ترامب صدمة عنيفة للأوروبيين. فقد عرفت العلاقة الأمريكية الأوروبية صعوداً وهبوطاً لكنها بقيت على الدوام بالنسبة إليهم علاقة وجودية، علاقة قيم واحدة ونظام سياسي ديمقراطي وتحالف عسكري ودبلوماسي وتبادلات اقتصادية. لم يفكر الأوروبيون يوماً بإعادة النظر بهذه العلاقة، كما يفعل ترامب اليوم مهدداً بذلك ما يسمى ب«القيم الغربية» التي يفاخرون بها.
وهكذا ازداد القلق الوجودي الأوروبي حدة مع وصول ترامب إلى السلطة. هذا الأخير يتمنى تفكك الاتحاد الأوروبي وبوتين يعمل حثيثاً لإضعافه وزرع بذور الانقسامات بين دوله، ولندن، المركز المالي الأول والاقتصاد الثالث في أوروبا، تستعد للخروج، والشعوب تنطوي على نفسها أمام صعود اليمين المتطرف وخيبات الأمل إزاء «الحلم الأوروبي»... وبعد ٥٤ عاماً على معاهدة الإليزيه ينتظر الجميع أن تعود باريس وبرلين إلى دورهما كمحرك لأوروبا، وقد صدرت عنهما أكثر الردود صلابة على ترامب، بدءاً بالرئيس هولاند والمستشارة ميركل وصولاً إلى كل الصحافة تقريباً مروراً بالمسؤولين السياسيين من وزراء ونواب وغيرهم.
لكن المشكلة أن البلدين يعيشان عاماً انتخابياً صعباً.ففي فرنسا يلمع نجم اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان التي فرحت بفوز ترامب وتريد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وفي ألمانيا تعاني المستشارة صعوبات أمام صعود اليمين الشعبوي الذي قد يصبح القوة الثالثة في البوند ستاغ، الأمر الذي سيعقد تشكيل الحكومة المقبلة لاسيما وأن الحزبين الكبيرين لا يريدان العودة مرة ثالثة إلى القاعدة الائتلافية المعمول بها منذ العام ٢٠٠٥.
من جهته يعيش الاتحاد الأوروبي أزمات يعجز عن إيجاد الحلول الناجعة لها (مثل اليورو، اللاجئين، الحدود،..) وهي في جلها أزمات هوية. وكل دولة من دوله منطوية على همومها الداخلية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والاتحاد مشغول بإدارة وتنظيم «البريكست».
لذلك فمن المحتمل أن تحاول كل دولة أوروبية السعي لدى الإدارة الأمريكية الجديدة للحصول على ميزات وتوقيع اتفاقات وتحقيق مصالح، كما فعلت تيريزا ماي التي كانت أول زعيم في العالم يتوجه لزيارة ترامب في واشنطن حيث أعربت عن سعادتها بالعلاقة «المميزة» مع الولايات المتحدة وبالاتفاقات الاقتصادية التي يعرضها عليها مضيفها. وإذا نجح ترامب في جر الأوروبيين إلى التعامل معه بشكل ثنائي فسيكون لذلك تداعيات كارثية على الاتحاد الذي يعيش اليوم لحظة مفصلية في تاريخه.
بالطبع هناك متشائمون في أوروبا يعتقدون بأن ترامب سينجح في تفكيك الاتحاد الأوروبي الذي دب فيه الوهن ووصل إلى طريق مسدود في مسيرته. لكن المتفائلين يعتقدون بأن أوروبا، بعد أن تنتهي من انتخاباتها في العام الجاري وتكون قد احتوت صعود الشعبويات ستكون قادرة على إعادة ترتيب نفسها.
الجواب الأوروبي على ترامب مرتبط بالمشهد السياسي الذي سترسمه الانتخابات في فرنسا وألمانيا وإيطاليا.
في جميع الأحوال فإن الرد الوحيد الذي تملكه أوروبا على ترامب هو المزيد من التقارب والتوحد بين دولها، كما عبر هولاند في مؤتمر لشبونة المتوسطي الشهر المنصرم. وقد يشكل ترامب فرصة نادرة للأوروبيين الذين لا خيار لهم سوى تشكيل جبهة واحدة متراصة للوقوف في وجهه منعاً لانهيار تجربتهم الاتحادية.
من يدري؟ ربما يشكل ترامب فرصة تاريخية لهم لتنظيم صفوفهم وتوثيق عرى وحدتهم، كما لم يفعل أي رئيس أمريكي سابق.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"