فلسطين في الرمال المتحركة للمفاوضات

04:53 صباحا
قراءة 3 دقائق

مع قلة، بل ندرة أوراق القوة التي ما زالت السلطة الفلسطينية تحتفظ بها في ماراثون المفاوضات الطويل مع إسرائيل، فإن محمود عباس قد سجل نجاحاً نسبياً في الأشهر الماضية التي ربما بلغت العام ونصف العام، في التمسك بموقفه بأنه لا يمكن ان يواصل التفاوض مع إسرائيل ما لم تعلن هذه الأخيرة وتنفذ عملياً وقف عمليات الاستيطان .

صحيح أن السلطة لم تستطع أن تفرض شيئاً على إسرائيل بهذا الموقف، لكنه كان أضعف الإيمان، لأن رئيس السلطة الفلسطينية ما فتئ يكرر بين حين وآخر، أن ليس أمامه في إدارة قضية فلسطين سوى المفاوضات، ثم المفاوضات، ثم المفاوضات .

وكان هذا أضعف المواقف، لكنه كان يمنحه شيئاً من القوة بتصلبه في التوقف الكامل عن الذهاب إلى المفاوضات، ما دامت إسرائيل لم تعلن بعد، ولم تنفذ التوقف عن عمليات الاستيطان .

لكن مع انقضاء العام المنصرم، وقدوم العام الحالي، اتضح أنه حتى هذا الموقف الذي وصفناه بأضعف الإيمان، والذي لم يدفعنا خطوة واحدة إلى الأمام في المسيرة العامة للقضية، وفي عملية وقف الاستيطان، حتى هذا الموقف، لم يعد أبو مازن قادراً، في ما يبدو، على التمسك به . فقد فاجأتنا مع آخر أيام العام المنصرم، أخبار العودة إلى مواصلة المفاوضات، وإن بطريقة غير مباشرة، وإن باشراف مباشر ومشاركة مباشرة من الرباعية الدولية .

تبين في ما بعد أن هذه العودة غير المباشرة، تحولت إلى عودة مباشرة، وإن على مستوى منخفض، إذ تواصلت المفاوضات بين صائب عريقات من جهة، واحد مستشاري نتنياهو، من جهة ثانية .

وكما لم يكن مفاجئاً لأحد، فإن هذه العودة المفاجئة للتفاوض لم تؤد إلى أي جديد، كما أن عملية مواصلة الاستيطان لم تتوقف، احتراماً لعودة المفاوضات، ولو توقفاً جزئياً، بل هي على العكس من ذلك تزداد يوماً بعد يوم حدة وشراسة، حتى وصلت مشارف التهويد الكامل للقدس العربية، وفصلها التام جغرافياً عن الضفة الغربية .

ومع أن الجانب الفلسطيني هو الذي يحتاج في مثل هذه الظروف إلى ما يمنحه شيئاً ولو شكلياً من الاطمئنان، فإن محمود عباس هو الذي مما فتئ يرسل رسائل الاطمئنان لإسرائيل، حتى في فترة توقف المفاوضات، من أنه لن يذهب إلى تحريك بعض أوراق القوة الفلسطينية، مثل استئناف عمليات المقاومة المسلحة، أو حتى المقاومة المدنية على طريقة الانتفاضة الأولى . بل إن عباس يكرر مرة تلو الأخرى، موجهاً كلامه لإسرائيل، بأنه من غير الوارد قيام انتفاضة ثالثة، حتى قبل أن يسأله الإسرائيليون في ذلك .

ليست هذه ذروة المهانة وذروة التخاذل في الموقف الفلسطيني . فلقد انبرى نتنياهو قبل أيام، إلى السخرية من المفاوضات غير المباشرة الدائرة بين صائب عريقات ومستشاره، مؤكداً أن لا قيمة البتة لمثل هذه المفاوضات، حتى لو جرت مع مستشار له، لأن هذا الأخير لا يمثله في هذه المفاوضات، بل يمثل رئيس الدولة الإسرائيلية، شمعون بيريز، الذي لا يملك أي صلاحيات سياسية، كما هو معلوم .

وهكذا يتضح لنا أن المفاوضات الجارية منذ سنوات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، قد تحولت منذ مدة إلى رمال متحركة، كلما تقدمت فيها السلطة الفلسطينية إلى الأمام، غرقت في هذه الرمال، وأغرقت معها قضية فلسطين، والحالة النفسية للفلسطينيين، سواء في ذلك المقيمين على أرض 48 أو أرض ،67 أو في الشتات العربي والعالمي .

ذلك لأن إسرائيل تواصل هذه الحالة من المفاوضات المتصلة حيناً، والمتقطعة حيناً، بينما هي تملك بين أيديها ترسانة لا أول لها ولا آخر من أوراق القوة العسكرية والدبلوماسية والسياسية، وحتى النفسية . بينما تصر السلطة الفلسطينية على الاكتفاء بالتفاوض، مجرد التفاوض، مع عدم الحرص أو السعي لامتلاك أي من أوراق القوة، بل- الأنكى من هذا- مع إرسال التطمينات المتواصلة لإسرائيل، بأنها لا تسعى ولن تسعى إلى امتلاك أي ورقة قوة، حتى لو كان ذلك بإطلاق البدء لانتفاضة ثالثة، تستعيد السيرة المجيدة للانتفاضة الأولى (1987-1992)، التي اثبتت محلياً وإقليمياً ودولياً، أنها أنجح وأعظم صيغ النضال الفلسطيني، على مر تاريخه، والأقدر ليس فقط على التحول إلى ورقة قوة رئيسية في التفاوض، بل إلى فرض الحل التاريخي الشامل والعادل على الكيان الصهيوني، بما في ذلك فرض حق العودة لكل فلسطيني هجر من أرضه في 48 أو 67 .

وإذا لم يتم ذلك، فإن المسيرة الراهنة والمتواصلة لأنواع التفاوض المباشر وغير المباشر، قد تحولت إلى ستار يسمح لإسرائيل عملياً باستكمال تهويد كل فلسطين، ويسمح لها سياسياً بأقصى حالات التطرف، حتى ظهور تصريحات إسرائيلية متكررة بأنه لم يعد وارداً لإسرائيل قبول قيام دويلة فلسطينة، وأن على الفلسطينيين أن يكفوا عن مثل هذه الأحلام .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"