آثار تراجع الطبقة الوسطى

02:40 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية العالمية تشير إلى تراجع الطبقة الوسطى في عموم دول العالم مع بعض الاستثناءات القليلة، ولا يمكن تجاوز دلالات هذا التراجع وتأثيراته في المشهد السياسي الدولي، في الوقت الذي تزداد فيه حدّة الحروب التجارية بين الدول، كما في الصراع بين الولايات المتحدة والصين، أو عودة بعض الدول إلى السياسات الاستعمارية القديمة، واحتدام التنافس مجدّداً على منابع الطاقة.
الطبقة عموماً، وخصوصاً الطبقة الوسطى، ليست مفهوماً ناجز التعريف، فقد تداخلت في بناء هذا المفهوم العديد من المفاهيم الأخرى، الناجمة عن تطور الدراسات الاجتماعية، بما فيها علم النفس التحليلي، لكن التعريف الاقتصادي الأبرز لها، والذي يتمتع بوضوحٍ تام، هو أنها «الفئة التي تقع في وسط الهرم الاجتماعي»، وبحسب ماكس فيبر (1864-1920)، عالم الاجتماع الألماني، فهي «الطبقة التي تأتي اجتماعياً واقتصادياً بين الطبقة العاملة والطبقة الغنية».
بالطبع، إن التعريف الذي وضعه ماكس فيبر هو تعريف مؤسّس على قراءة المجتمع الرأسمالي، حيث تشكّل الصناعة قاطرة المجتمع، ويمكن فرز الفئات الاجتماعية فيه انطلاقاً من موقعها في منظومة العمل والإنتاج والعائد المالي، لكن هذا التعريف يشهد انزياحاً حينما يتعلق الأمر بالدول الريعية، حيث يصبح تعريف الطبقة الوسطى هو الفئة التي تأتي بين الطبقة الغنية والفقيرة، نظراً لغياب مفهوم الإنتاج بمعناه الصناعي، أو وجود طبقة عاملة بالمعنى المتعارف عليه.
وعلى الرغم من المحاولات الهائلة للرأسمالية في العقود الثلاثة الأخيرة لاستبعاد النقاش حول الطبقات في الإعلام، وتوجيه أنظار الجمهور إلى قضايا أخرى، فإن المسألة الطبقية تعود بحدّة، بل تَحوّل شبح مشكلاتها وأزماتها راهناً إلى واقع، فقد شهد العام الماضي 2019، العديد من الأزمات والاضطرابات حول العالم، نتيجة فشل السياسات الاقتصادية في إحداث توازن بين طبقات المجتمع في العديد من الدول.
هناك متغيّر رئيسي يجب ملاحظته في النظام العالمي الراهن، وهو أن مراكمة رأس المال أصبحت بحدّ ذاتها خاضعة لمسار عالمي ما فوق وطني، خصوصاً في الرأسمال المالي، والذي تسيطر فيه المصارف والمضاربات المالية على حركة الأسواق والأموال، وتتم مراكمة ثروات هائلة من دون أي إنتاج حقيقي (البورصة مثالاً).
في مايو/ أيار من العام الماضي، دقّ جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ناقوس الخطر، معترفاً بوجود تراجع كبير في الطبقة الوسطى الأمريكية، قياساً إلى عقود سابقة، «حيث تتراجع بازدياد فرصة الأفراد بالانتماء إلى هذه الطبقة»، في الوقت الذي تتوسّع فيه الفئات الفقيرة، بما في ذلك الواقعة تحت خطّ الفقر، والتي بات ينتمي إليها أكثر من 40 مليون أمريكي.
أوروبا هي الأخرى، تعاني أكثر من أي وقت مضى، من تراجع الطبقة الوسطى من حيث النسبة إلى عموم المجتمع، أو بالقدرة الشرائية، مع ازدياد في فئة الأثرياء، وتوسّع مخيف في الفئات الفقيرة أو الواقعة تحت خطّ الفقر.
في العالم العربي، حيث لا توجد اقتصادات صناعية كبيرة، ولا يمكن الحديث عن مجتمعات الإنتاج، تدهورت أوضاع الطبقة الوسطى بشكل كبير، خصوصاً أن النخب الحاكمة في معظم الدول الريعية العربية لم تعد تمنح التوازن الطبقي أي اهتمام يذكر، ويشكل المثالان العراقي واللبناني مؤخراً نموذجين واضحين لتدهور الطبقة الوسطى، مع توسّع هائل للطبقات الفقيرة، وتمركز المال لدى نخبة صغيرة، مع انهيار مقوّمات الإنتاج في المجتمع، والاعتماد الكامل على الاقتصاد الريعي، والذي تتحكّم فيه شبكات وتحالفات تقوم على الولاء والمحسوبية.
تشكل الطبقة الوسطى صمام أمان للمجتمعات، وكلما تقلّصت نسبة هذه الفئة، تفاقمت الأزمات، وأصبح الانفجار وشيكاً، وما نشهده اليوم من تراجع عالمي في نسبة هذه الفئة يشير إلى تحوّلات مخيفة في بنية النظام الاقتصادي العالمي، وينذر بصفحات جديدة من الاضطرابات السياسية في الكثير من الدول، بل وتحوّل سياسة الهروب إلى الأمام خياراً لدى الكثير من الزعماء السياسيين وداعميهم من النخب الاقتصادية والمالية، من أجل المحافظة على مكاسبهم، وهو ما يعني فصولاً جديدة من الحروب حول العالم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"