لنصنع الفن بأنفسنا

02:13 صباحا
قراءة 7 دقائق
** القاهرة: مدحت صفوت

في الوقت الذي يبدو فيه السؤال عن أثر تأثيرات جائحة كوفيد 19 «كورونا»، على مسار حركة الآداب والفنون، وتطورهما مبكرًا في نظر البعض، خاصة أننا نعيش الأسابيع الأولى من انتشار الوباء في العالم، يمكن أن نعتبرها فرصة للحديث عن ارتباط الحركات الأدبية والفنية بالمتغيرات الدولية في العصر الحديث.
لعل الارتباك الذي أصاب البشرية مع اجتياح فيروس كورونا، يمكن أن يؤدي إلى إنتاج ثقافي وفني مبكر، يساير المرحلة ويعبر عن همومها وآلامها، وطبقًا لنظرية الانعكاس المباشر، الأمر الذي يذكر بما شهدته مسيرة الفنون وقت الحرب العالمية الأولى من ظهور فجائي لما عرف بالمدرسة «الدادية».
يعزز فكرة إمكانية ولادة اتجاهات فنية وأدبية سيربطها النقاد المغرمون بالتحقيب التاريخي، بالفترة التي يعيشها العالم حاليًا وتُعرف ب«جائحة كورونا»، عوامل عدّة منها أنه من المؤكد أن يصبح وباء منتشراً في القرن الحادي والعشرين على هذا النحو حدثًا مفصليًا، يغري الباحثين بدراسة الأوضاع قبله وبعده على غرار حادث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وحرب الخليج، وغيرها من الحوادث.
أضف إلى ذلك رؤية كثيرين من الحالمين في عالم متغير عقب انتهاء الجائحة، وتحميل هذه الكارثة مهمة التغيير في العالم، خاصة في ظل فشل محاولات التغيير السلمية أو المسلحة في العقود الأخيرة وانعكاسها بعواقب جد وخيمة، وإن بدت هذه الرؤية ساذجة ورومانسية، لكنها معبرة عن حالة من اليأس، ودالة على العجز الذي يعانيه الفنان، خاصة والإنسان عامة، من آثار التوحش الرأسمالي والنيوليبرالية، وهي مسألة تصب في بحث الإنسان عن طرائق جديدة للتعبير عن آلامه وأحلامه معًا.
ظنًا وليس جزمًا، أن حالة القلق التي يعيشها العالم الآن جراء فرض الحجر الصحي وانتشار الوباء على نحو كبير في 207 دول، حتى الآن، ستخلق نوعًا من الوعي الذي قد يتسم بسمات راديكالية حيال تحقيق إعادة التشكيل الإبداعي للحياة اليومية، ومقاومة الملل ومعارضة لسعادة الثقافة الاستهلاكية الاستحواذية، ورفض رتابة العمل والاغتراب والسيطرة والبيروقراطيات، يظل الحالمون يتمنون عالمًا يتسم بالمساواة والحرية، وتصان فيه الحريات الشخصية والسياسية للفن والحياة والحب.

تغير سلوكيات

حين كتب الشاعر المصري ممدوح التايب مازحاً على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» «أدب ما بعد الكورونا»، تلقفها كثيرون من الأدباء بنوع أيضًا من المزح والسخرية، فيما قد تكشف الأيام أو السنوات المقبلة عن توجهات قد تسمى بكتابات Post-coronalism، فيما بدأ بعض الصحفيين الأمريكيين يستخدمون مصطلح coronalism، ليس فقط على الإشارة لجائحة كوفيد 19، إنّما إلى تأثيراتها الاجتماعية التي بدت واضحة في سلوكيات الأمريكيين، جراء الهلع والفزع الذي سيطر داخل الولايات المتحدة منذ بدايات الأزمة.
إن بادئة ال«ما بعد»، تظهر على المستوى الكتابي في الإنجليزية من أربعة أحرف، سهلة النطق، لكن دلالتها ومعانيها، ورؤاها تتعدى هذه السهولة والبساطة، وتنقلنا إلى جملة من المتغيرات قد يشهدها العالم، وسبق أن شهدها في حوادث سابقة، ومن المؤكد أنها ستلقي بظلال الشك على مقولات العالم الرأسمالي والاستهلاكي التي اعتقدنا أنها ثابتة، كما تشير كلمة post دومًا إلى حالة من القطيعة بين مرحلتين متناقضتين ومتصارعتين.

وقفات تاريخية

ليس ببعيد عن الذهنية الثقافية، ما شهده العالم من تحولات عقب الحرب العالمية الثانية «سبتمبر 1939 - 2 سبتمبر 1945»، والتحول الفكري الذي قاد إلى المرحلة التي عرفت بما بعد الحداثة، وعلى الرغم من قدم المفهوم، إلا أنه صار عنوانًا على هذه الفترة التاريخية.
ويذكر الفيلسوف الألماني فولفجانج فيلش، أن لفظ ما بعد الحداثة استخدمه الفنان البريطاني تشابمان عام 1870، ثم وردلف بانفيز عام 1917. ولم يسمع بهذا المصطلح إلا لماماً قبل فيلش. فيما يرى الفيلسوف الأمريكي المصري، إيهاب حسن أن الكاتب الإسباني فيدريكو دي أونيس، في كتابه الصادر سنة 1943 بعنوان «أنطولوجيا الشعر الإسباني، والإسباني الأمريكي»، أول من استعمل المصطلح.
ومع ضحايا الحرب، الذين يتراوح عددهم بين 50 مليوناً و80 مليوناً، أدرك الفنانون في العالم أن إنسان الحداثة بات في وضعية مأزقية ولم يدرك ذاته على نحو مستقل كما كان يرجو، والمنطق صارم لدرجة لا تحتمل، والعقل وحده لا يكفي، وعلمية الحداثة أسقطت الإنسان، رغم أنها سعت لأن تصبح الذات الإنسانية السمة الأساسية في الوجود، وسعت جاهدة إلى ترويض العالم، وجعله بكل كائناته مقيساً بالقياس الإنساني.
هنا، بدأ الفنانون ينشطون في استعادة العدمية التي رسّم حدودها المفكر الألماني نيتشه في القرن التاسع عشر، من بعده مارتن هايدجر في القرن العشرين، وشكلت مرحلة فاصلة في مسار الحداثة، إذ تحوّلت من مبدأ أو ركيزة حداثية إلى نقطة تقويض الحداثة، والاستحالة إلى ما بعد الحداثة، بعدما أصبحت «التقنية» ميتافيزيقيا للهيمنة على الإنسان، واستبدلت بحداثة الحرية والإخاء والمساواة، حداثة النخبة المتعقلنة والمحدثة على بقية العالم، وذلك بواسطة تنظيم التجارة والمصانع وبواسطة الاستعمار، ويمكن القول هنا إن العدمية كانت بمثابة البوابة لنقد الحداثة، وبداية لتحول جديد عرف بما بعد الحداثة.

الحرب الكبرى

نظرًا لما شهده القرن العشرون من تغيرات جذرية، فقد شهد القرن ذاته أكثر من أي قرن مضى بروز وظهور الحركات الفنية والأدبية التجريبية، التي تآلفت في مكافحة الأساليب والأنماط الفنية والموروثة، ساعية نحو استكشاف طرائق مغايرة تستوعب متغيرات العصر، وتستطيع أن تؤدي الدور المنوط منها.
ومع كل حادث مفصلي، تهتم الكتابات العامة بالتحولات الكبرى في السرد على نحو عام، فتزخر الكتابات النقدية بمصطلحات من قبيل روايات ما بعد الاستعمار مثلًا، سرد ما بعد الحداثة، قصص ما بعد الحرب، كتابات مع بعد الحروب الأهلية كالأمريكية والإسبانية وغيرهما. في حين تتراجع نسبيًا دراسات متابعة تطورات الشعر خاصة في العالم العربي، وتأثير العوامل غير الأدبية على الحركات الشعرية.
عربياً، من الممكن الربط بين بدايات حركة شعر التفعيلة مثلًا وآثار الحرب العالمية الثانية، إذ ظهرت أولى القصائد التفعيلية أواخر الأربعينات 1947 تحديدًا بعد انتهاء الحرب بعامين، وليس بخافٍ أن قصيدة العراقية نازك الملائكة «الكوليرا»، واحدة من بواكير الشعر الحر في العالم العربي، وترصد مأساة انتشار وباء الكوليرا قبيل ميلاد الشكل الشعري الجديد، كما لا يمكن إغفال دور انتشار بعض النزعات الفلسفية كالوجودية، التي كادت تمثل ظاهرة أو «موضة فكرية» في العالم أجمع، والسعي نحو الحرية على نحو شامل.
وفي الشعرية البريطانية، يعد تيد هيوز شاعر الحرب، بتعبير البروفسور دينيس فالدر، وكانت كتاباته نابعة تأثير الذاكرة الفردية المحملة
بالفقد، خلال الحرب العالمية الثانية والذاكرة الجماعية للثقافة الإنجليزية، وكثيرًا ما اشتهرت عبارته «الحرب العالمية كابوسي»، ولم يفوّت فرصة للكتابة عن الأثر الذي طغى عليه صغيرًا في قصائد مثل «Six Young Men» و«Bayonet Charge».
وعلى الرغم من ولادة تيد 1930، أي بعد انتهاء الحرب الأولى بأكثر من عقد، فإنها مثلت نقطة مركزية في جلّ قصائده، أو بقوله «كان الشيء الكبير الذي ظل حاضرًا دائمًا هو الحرب العالمية الأولى، التي قاتل فيها والدي وعمّي، والتي بدت أنها قتلت كل شاب آخر عرفه أقاربي».
في دراستها المعنونة ب«هيوز والحرب» 2016، تتوقف الباحثة البريطانية هيلين ميلودي أمام تأثيرات الحرب في شعر هيوز، وعن التأثير العميق للمعارك على المجتمعات المحلية، واصفة تأثيرها ليس فقط على أولئك، الذين عاشوا خلال النزاع «الجنود وأسرهم»، لكن أيضًا على الأجيال اللاحقة، الأمر الذي يتجلى في تعابير هيوز في قصائده «الصدمة الكبرى الأولى» و«ستون سنة».

عواء البيتس

في أمريكا، التي مرت بحرب أهلية داخلية وارتكبت جريمة كبرى خلال الحرب العالمية الثانية، وهي حادث إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما ونجازاكي، لا يمكن أن نفوّت التعريج على جيل مهم شعريًا وهو «جيل البيتس»، ففي الوقت الذي شهدت فيه الولايات المتحدة تطورًا تكنولوجيًا، ساءت العلاقات الاجتماعية وباتت المدن الكبيرة مرادفة للتحيز الظالم والعنص`رية والاغتراب.
وسط ما تعيشه أمريكا الخمسينات يعلن «جيل البيتس» مخالفة الأنماط الاجتماعية السائدة ومكافحة السلطات التنظيمية هناك، والدعوة إلى ثورة اجتماعية متمردة على المؤسسات كافة، بما فيها المؤسسة الأكاديمية، فجاءت قصائدهم تعبيرًا عن فشل الحلم الأمريكي.
وفي طليعة البيتس، التي تأسست نواتها بأسماء جاك كيرواك وويليام إس بوروز، ومعهما الشاعر الأمريكي آلن جينسبرج، الذي بدت نصوصه «عواءً»، كما جاء في عنوان أشهر قصائده، ضد القيم الجمالية السائدة في الشعر الأمريكي، مستفيدًا مما طرحه السرياليون من قبل، ورافضًا العمل بقواعد التركيب اللغوي والبنية الشكلية، فأصبحت القصائد أكثر ميلًا إلى النزعة التعبيرية التجريدية في الفنون التشكيلية.


سخط


في قصيدة «أمريكا» ينتقد آلن جينسبرج المناخ السياسي السائد، ليبدو النص لائحة اتهام عنيفة واعترافًا اعتذاريًا عمّا تقترفه النظم الأمريكية حيال البشرية، خاصة جرائم قتل البشر وتحويل العالم إلى أرض خراب. وفي نصوصه بصفة عامة، يحلم «آلن» بالفرار من الحياة الأمريكية الحديثة، التي تمسخ البشر وتجردهم من نوازعهم الإنسانية والأخلاقية، فيسقطون في الهاوية.
بنبرة ساخطة، امتدت فكرة جيل البيتس من مؤسسيها الثلاثة إلى جيل كامل من الكتاب والفنانين، متأثرين بأعمال الأمريكي هنري ميلر خاصة «مدار السرطان»، و«مدار الجدي»، ليخوض هذا الجيل معاركه ضد الرقابة السياسية والاجتماعية والثقافية والأكاديمية والأعراف المزيفة والأقنعة، التي تجمل الأكاذيب، وتجعل منها مادة مقبولة.


الأولوية للجمهور


على الرغم من انحسار «الدادية»، مع عشرينات القرن العشرين وظهور السريالية، شهدت أواخر الخمسينات من القرن العشرين بزوغ حركة فنية احتجاجية عُرفت «الحركة السائبة»، أو الجريان Fluxus، كامتداد للدادية الأولى، وحركة المستقبليين التي أسسها فيليبو توماسو مارتيني 1909 حين نشر وثيقته «إشهار وتكوين وإعلان مبادئ الحركة المستقبلية».
الحركة التي لا تكاد تذكر في الكتابات العربية، حققت رواجًا كبيرًا وقتها في الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا الغربية واليابان، وضمت تشكيليين وموسيقيين، معتبرة الفرنسي الشهير مارسيل دوشامب زعيمًا روحيًا لها، والملحن الطليعي الأمريكي جون ميلتون كيج رائد الموسيقى الكهرسمعية، والاستخدام غير التقليدي للآلات الموسيقية، المنظر الأول لها.
ولم تكن الحركة، التي اتهمت بالفوضوية وليدة المصادفة، إنّما يمكن ربط بزوغها بتأثيرات حرب فيتنام، التي اندلعت مع المقاومة ضد أمريكا، نوفمبر (تشرين الثاني) 1955، إذ اجتمع الفنان الليتواني الأمريكي جورج ماسيوناس «1931-1979»، في العام 1959 مع مجموعة من الفنانين في فصل Cage في The New School في نيويورك لتشكيل مجموعة نيويورك السمعية البصرية.
وتعود أصل التسمية إلى الكلمة اللاتينية Fluxus التي تعني التدفق، وهو الهدف الذي عبّر عنه مؤسس الحركة «الترويج لفيضان ثوري، ومدّ فني، وتعزيز الفنون الحية، الفنون السائبة والجارية». وجرى تنظيم أول معرض عام 1961 في AG Gallery بنيويورك وتبعه مهرجانات في أوروبا سنة 1962.
ولعبت جماعة Fluxus دورًا مهمًا في إعادة النظر في تعريف الفن، والخروج للشارع وتقديم فنون الأداء للجمهور العام في المناطق المفتوحة ورسم الجرافيتي على الجدران وتصميم اللوحات على الأرض ومن مواد لم تكن مستعملة من قبل في العملية الفنية، تحت شعار «اصنع فنك بنفسك»، وكممارسة ديمقراطية بين منتج الفنون ومتلقيها، وربما تعد من التيارات الممهدة للنزعات التي ظهرت في السبعينات كنتيجة طبيعية لأحداث مايو (أيار) 1968 أو ثورة الشباب 68.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"