الأسى..وقود القصيدة

03:25 صباحا
قراءة 5 دقائق
القاهرة: «الخليج»

«كل شيء يولد صغيراً، ثم يكبر، إلا الحزن فإنه يولد كبيراً، ثم يصغر»، هذه إحدى الجمل الشائعة عن الحزن، الذي يعد ظاهرة في الأدب العربي القديم والحديث، ويرتبط أكثر ما يرتبط بالشعر، الحزن في الأدب قديم قدم الإنسان المبدع، نقع على بعض مظاهره في الملاحم والأساطير، وقد أشار العديد من النقاد إلى الحساسية الخاصة، التي تميز المبدع عن سائر أبناء عصره، ولاحظوا أن الفرق بين الشعراء وغيرهم يتجلى في التكوين النفسي للشاعر، وعلى الرغم من أن البشر جميعهم يشعرون بالألم، فإنهم يعانون الحزن بنسب متفاوتة، ولأسباب متعددة، فإن هناك فرقاً بين أن يعاني الإنسان الحزن، وأن يجعل من الحزن فلسفة، ويجسّد تلك الفلسفة في الأدب.

لم تعد ظاهرة الحزن ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن، كما كانت الحال في الشعر العربي القديم، فمن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ حزناً، مثل الخنساء في رثاء أخيها، وأبو ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

ظاهرة محورية

في الشعر الحديث، الحزن ظاهرة معنوية، تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد «استفاضت نغمة الحزن، حتى صارت تلفت النظر؛ بل يمكن أن يقال إن الحزن صار محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون، وحاول بعض النقاد العرب البحث في أسباب وجود ظاهرة الحزن في الشعر العربي».

من أبرز هؤلاء د. عز الدين إسماعيل، الذي أكد وجود الظاهرة، بوصفها ظاهرة محورية، من أسبابها تنامي الشعور بالذات الفردية، بدلاً من الجماعية، وهذا يقودنا إلى الحديث عن اغتراب الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر عز الدين إسماعيل عدة أسباب للحزن؛ منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي، وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن، وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب، أو من الفنين الغربيين الروائي والمسرحي.

مواجهة الذات

واجه صلاح عبد الصبور نفسه بمقولات النقاد حول أنه «شاعر حزين» وأوضح أن هؤلاء «يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام، وتلك مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الديني أو كالأخلاقيين التقليديين» وانبرى لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر.

يقول صلاح عبد الصبور: «لست شاعراً حزيناً؛ لكني شاعر متألم؛ وذلك لأن الكون لا يعجبني، ولأنني أحمل بين جوانحي، كما قال شللي، شهوة لإصلاح العالم، إن شهوة إصلاح العالم هي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر؛ لأن كلاً منهم يرى النقص، فلا يحاول أن يخدع عنه نفسه؛ بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره: «أما أولاهما فهي أن حزننا نحن هذا الجيل من الشعراء، حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان إليوت، أما القضية الأخيب فهي قولهم إننا نتحدث عن مشكلات لم نعانها كمشكلة اللاتواصل الإنساني من خلال اللغة، كما تتضح عند يونسكو أو الجدب والانتظار عند بيكيت وإليوت أيضاً، أو المشكلات الوجودية عند سارتر وكامي، وبخاصة مشكلة الموت والوعي».

يتوقف عبد الصبور كثيراً أمام قصيدته «الحزن» ومطلعها يقول: «يا صاحبي إني حزين/‏ طلع الصباح فما ابتسمت/‏ ولم ينر وجهي الصباح»، لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية، إلى لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، إلا أن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة تافهة، ويلتقط د. جابر عصفور عدة تيمات في قصيدة صلاح عبد الصبور ومنها: أن «السخرية كالحزن، كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعره» وفي لقاء بينهما سأله عصفور: لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟ وكما يقول عصفور: نظر إليّ كما لو كان ينطوي على نوع من الرفق بي؛ لكنه سألني: وما الذي يفرح في هذا الكون؟!

أسباب خاصة

تحت عنوان: «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث» يكتب د. أحمد سيف الدين، موضحاً أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كانت عليه الحال في الشعر العربي القديم، ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، إنه يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

وهناك أسباب للحزن منها أسباب ذاتية، يتعرض لها الشاعر في حياته، كالمرض أو الفقر أو الاغتراب، وهناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، ويصل الدارس لهذه الظاهرة في الشعر العربي إلى بعض النتائج، منها شيوع ظاهرة الحزن، بنسب متفاوتة تختلف من شاعر إلى آخر.

سلوك اجتماعي

في كتاب صدر بالألمانية للدكتور ناجي نجيب، أستاذ معهد الدراسات الشرقية التابع لمعهد بون، هناك فصل بعنوان «كتاب الأحزان» عالج فيه ظاهرة الحزن كسلوك اجتماعي، وفيه دراسة في التاريخ النفسي والوجداني والاجتماعي للفئات المتوسطة التي كان صلاح عبدالصبور يمثلها خير تمثيل، الذي أخرج الشعر من المرحلة الرومانسية إلى مرحلة التعبير عن أحزان المواطن العادي.

تحول الحزن إلى إطار ذهني وجداني، وإلى أسلوب شعري؛ بحيث يعجز صاحب الحزن أن يحدد لك أسبابه ومصادره، فقد تداخلت الأسباب والمصادر، وانصهرت في عاطفة أو حالة وجدانية شاملة، لا مهرب منها ولا غنى عنها، فالحزن عند صاحب الحزن شيء دائم لا عارض، وهو قدره، وما أخذ به نفسه في مواجهة الكون المحتمل والواقع المريض.

وقد يقول لك أيضاً إنه قدر جيله، وقدر الإنسان في هذا العصر المنكوب؛ بل وقدر الإنسانية في هذه الدنيا، فمن طبيعة الحزن إذا امتد به الزمن أن يستقل، ويتحول إلى حالة مزاجية وجدانية شاملة، قد تشتد بفعل المؤثرات الخارجية؛ لكنه موقف احتجاج شعوري عام، واحتماء في حنايا الذات، ومعاناة من الوحدة والانتظار، وأيضاً حنين إلى شيء ماض أو مفتقد أو قل إنه حلم بالماضي أو بالعودة، والحزن إذا امتد به الزمن يصبح من مكونات الذات الإنسانية، يصبح ذلك الشطر المهم من الذات، الذي تركن إليه في اضطرابها، والحزن في هذا المعنى موقف نفسي وجداني أو فلسفي خاص وهو لون من «الصوفية دون تصوف».

عبد الصبور نفسه، تحدث عن الحزن وعن مفهومه له، في كتابه «حياتي في الشعر»: «الحزن ليس حالة عارضة، لكنه مزاج، قد يعجزني أن أقول إنني حزنت لكذا ولكذا، فحياتي الخاصة ساذجة ليست أمضّ ولا أسعد من حياة غيري، لكني أعتقد أن الإنسان حيوان مفكر حزين، الحزن ثمرة التأمل، والحزن غير اليأس؛ بل لعله نقيضه، اليأس ساكن فاتر، والحزن متقد، والحزن أيضاً ليس هو ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني، أما أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

يمكننا أن نرصد أيضاً ظاهرة الحزن في شعر الشاعر والروائي الأردني تيسير سبول، كما يكشف عنها إبراهيم منصور الياسين، فالحزن في ديوان سبول «أحزان صحراوية» يمثل محوراً أساسياً؛ حيث عاش الشاعر حياة صعبة، وكان مسكوناً بأحزان ممتدة متلاحقة لا تنتهي، فقد سكنته أحزان مجدبة، وقاحلة، وموجعة، وكان يشعر بأن قلبه صار يباباً، وأنه «محض فكرة» أو «مجرد سراب» فعمره أصبح «شتاء دائماً» وكانت النتيجة أن ينهي هذا المبدع حياته منتحراً في سريره.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"