عادي
قصة أسطورية اختبرها السرد أخلاقياً وعلمياً

لعنة «طاقية الإخفاء» تغتال أحلام البشر

23:28 مساء
قراءة 6 دقائق

محمد إسماعيل زاهر
تعتبر قصة حسن الصائغ البصري في «ألف ليلة وليلة»، مدونة متكاملة من الحكايات والأساطير التي سيوظفها السرد بتنويعات مختلفة في ما بعد. في القصة ذلك الساحر الذي يغري حسن بالرحيل معه إلى جبل السحاب حيث الإكسير اللازم لتحويل النحاس إلى ذهب، وأحاديث عن الخيمياء، وطائر الرخ، وبنات مسحورات في هيئة طيور، وإشارة إلى جزر الواق واق «سبع جزائر فيها عسكر عظيم من البنات الأبكار، وسكان الجزائر الجوانية شياطين ومردة وسحرة»، وعندما تكتشف ملكة الجن نور الهدى أن البصري تزوج من أختها منار السنا تطرده من القصر وتحبس زوجته وولديه.

لا يستطيع حسن إنقاذ زوجته إلا بعد أن يحتال على غلامين ويأخذ منهما «طاقية الإخفاء» وقضيباً من يملكه يتحكم في سبع طوائف من الجن يخدمونه ويطيعونه، ومن خلال الطاقية يستطيع تهريب أسرته.

تتحول «طاقية الإخفاء» في رواية نجيب محفوظ «ليالي ألف ليلة» إلى لعنة تصيب ذلك الشاب فاضل صنعان، الحالم بعالم أجمل، تدفعه ليعيش وحيداً فريسة لليأس والظلام. تبدأ الحكاية بحوار بين العفريت سخربوط والعفريتة زرمباحة حول أحوال ذلك الحي العجائبي الذي لا يُتوقع من سكانه انحراف في القريب العاجل، ولذلك يشعران بالملل، ويقع اختيارهما على شاب نبيل ليمارسا عليه تجربة تخرجهما من ذلك الضجر.

وفي أحد الأيام وبينما فاضل صنعان جالس يسأل نفسه بغضب: «متى يجىء الفرج؟»، يظهر له العفريت في هيئة رجل مجهول غريب عن الحي، يحمل له هدية، ويجري أمامه تجربة الاختفاء بعد ارتداء الطاقية، يصعق فاضل وتداعبه الأحلام، وبعد أن يعطيه الرجل الهدية، يسأله ماذا سيفعل بها، فيرد فاضل: «سأفعل ما يمليه عليّ ضميري»، ولكن الآخر يقول له:«افعل أي شيء إلا ما يمليه عليك ضميرك»، ويضع العفريت ذلك شرطاً لكي يمنحه الطاقية، وبعد ممانعة وحوار حول الخير والشر ومقاومة من ضمير فاضل، يقبل الهدية خادعاً نفسه بأن بين الخير والشر أشياء كثيرة لا تنفع ولا تضر.

في اليوم الأول جرب فاضل قوة الطاقية في تحطيم قوانين البشر، والتخفي عن أعينهم ومراقبتهم..الخ وكلها أحاسيس منحته شعوراً بأنه يعلو ويسود، ضاع اليوم من دون عمل، وبلا نقود يشتري بها الطعام لزوجته وأمه، الأمر الذي دفعه إلى السرقة لأول مرة في حياته، سرق ثلاثة دراهم من محل قصاب أعقبها اتهام هذا الأخير لصبيه بالسرقة وطرده من العمل، جرب الطاقية في أمور سخيفة وتافهة بعد ذلك، في أحد الأيام رأى سجاناً اشتهر بتعذيبه للسجناء وهو يتشاجر مع بائع مسكين، فقام بتتبعه وقتله، وهنا لا يتركه العفريت لضميره، حيث يكتشف أن من قتله هو شقيق السجان التوأم والطيب، ولا يلبث أن يسود القصة المناخ المحفوظي القاتم، حيث ينخرط الشاب في شرب الخمر، ويتورط في أفعال لا أخلاقية ولا تلبث الشرطة أن تقبض عليه، ولكنه يهرب بواسطة الطاقية، ويبدأ في ترويع الحي عبر أحداث غريبة وغامضة، وقائع لا عقلانية، ويكتشف أنه أصبح عبداً للطاقية يعيش في اليأس والعزلة، خاصة وأن تلك الوقائع اللاعقلانية يعقبها القبض على أبرياء، ويضطر لكي يريح ضميره أن يسلم نفسه ويعترف بكل شيء، ويحكم عليه بالإعدام، وعندما ينتظر أن يقطع السياف رأسه، يشاهد المعلم سحلول تاجر المزادات، ملك الموت المتخفي بين البشر في كل فصول الرواية، يقول له: «أريد العدل»، فيرد عليه:«الله يفعل ما يشاء».

لم تحقق طاقية الإخفاء لصاحبها السعادة، قادته إلى خطايا كبرى، والأهم أنها أسكنته الوحدة واليأس، انتهكت براءته، أما ما يود محفوظ قوله فيتمثل في أن الأخلاق الحقيقية امتحان لابد من دخوله، ولا يمكن التغني بها في حي يفتقد إلى العدل.

أسئلة وملاحظات

«في باكورة أحد أيام فبراير قارسة البرودة جاء الرجل الغريب سيراً على الأقدام»، بهذه الجملة الجذابة يفتتح هربرت جورج ويلز روايته «الرجل الخفي»، تلك التي يختبر فيها حدوتة «طاقية الإخفاء» من زاوية علمية تناسب أواخر القرن التاسع عشر.

لعل القارئ لهذه الرواية الممتعة تستوقفه العديد من الأسئلة والملاحظات، منها مثلاً أن ويلز لا يكن أي تعاطف تجاه بطله جريفن، ويبدو أن هذا الكاتب المولع بالسرد العلمي في العديد من الروايات ينطلق من أفكار تدين العلم أكثر مما تبشر بطاقاته اللامحدودة، فكمب زميل جريفن والذي يلجأ إليه هذا الأخير في نهاية الرواية هرباً من مطارديه، وهو عالم مجتهد يؤمن بقوة العلم وفتوحاته، لا تستوقفه تجارب جريفن التي انتهت باختفائه، ولا يحاول حتى مساعدته لكي يعود مرئياً مرة أخرى، ولكنه يشعر بالخوف والهلع من بطش جريفن الهائج والغاضب نظراً لمطاردة البلدة له، ولا يوجد أحد في البلدة يطرح سؤالاً يتعلق بتلك المدارات اللانهائية من القوة التي تمنحها تجربة الاختفاء، ولا أحد يستفهم عن كيفية أن يقوم العلم بذلك، فجريفن أو على وجه الدقة مالانراه شر مطلق.

حبكة الرواية بسيطة جداً، فجريفن أحد شباب العلماء الذي يكتشف يوماً من خلال تجاربه إمكانية إخفاء الجسد البشري، والحبكة هنا تختلف عن «طاقية الإخفاء» الساذجة والأكثر جمالية، فنهايات القرن التاسع عشر فرضت على ويلز التفكير في اللامرئي من زاوية عقلانية، من هنا نحن لا نفكر في الشكل المخفي للإنسان بعد ارتداء الطاقية، نحن نقبع في ركن قصي داخل ذواتنا ونحلم ماذا سيفعل البطل بعد وضع «طاقية الإخفاء» على رأسه، حيث تنتابنا الأطماع والرغبات وتداعبنا الألاعيب التي يمكن أن نفعلها لو أهدانا القدر مثل تلك الأداة السحرية.

ولكن النظرة العلمية فرضت على ويلز بعض المحددات الواقعية، فالخفاء العلمي دائم، بمعنى أنه لا يمكن لجريفن أن يعود إلى الحياة الواقعية إلا عبر تجربة علمية أخرى، يستعيد فيها هيئته، والخفاء يقتصر على الجسد العاري فقط، لا يشمل الملابس، ولذلك يضطر جريفن أن يرتدي الملابس ليحمي نفسه من البرد القارس في انجلترا، يضع جريفن على رأسه شعراً مستعاراً تعلوه قبعه، ويرتدي نظارة سوداء ترتكز على أنف وأذنين من مواد تلتصق بالوجه، فضلاً عن قفازين لكي تكتمل هيئته ويستطيع الحياة في وسط البشر.

معاناة جريفن في الرواية مركبة، تبدأ من الجسد، ففمه وحنجرته وبلعومه..كلها مرئية إذا دخن السجائر، أيضاً الخفاء ليس مطلقاً، حيث يمكن تتبع أثر أقدامه على الطين أو الثلج..أقدام مطبوعة سريعة كما نشاهد في الأفلام التي تناولت هذه الثيمة، أيضاً يمكن اكتشافه في أعقاب تناوله الطعام وقبل هضمه، والمطر يكشفه..الخ، وكلها كذلك نقاط ضعف ستؤدي إلى هلاكه في النهاية.

المعاناة الحقيقية لجريفن تتمثل في صرامة ويلز فالعلم لا يمزح، ولذلك هو أكثر جدية وتراجيدية من ذلك الساحر الذي ترك طاقية لابنه الصغير ليلهو بها وسرقها منه حسن البصري واستخدمها في الخير، ومأساته تتجاوز فاضل صنعان الذي انصاع تحت ضغط الرغبة ليخضع لاختبار دخل فيه عقب معاهدة مع عفريت «شيطان»، فبلدة جريفن في نهايات القرن التاسع عشر لا يسكنها الجان، لا تبحث عن العدل أو تتشوق له، ولكنها مدينة صغيرة أشبه بالقرية يتخذها ويلز مسرحاً ليطرح رؤيته حول حدود العلم، ففي الطبعة الأكثر حداثة، اجتماعياً لا زمنياً، من محفوظ لا يكون الخيار بين الظلم والعدل، ولكن الخيار هنا بين العلم والقانون.

مأساة جريفن أنه يجري أبحاثه لكي يعود إلى حياته الطبيعية، ولكنه يفشل، فيسخط على المجتمع ويضطر إلى القيام ببعض الجرائم، ويٌقتل في النهاية، قتل ويلز جريفن بلا رحمة، من دون أن يمنحه فرصة ليحقق حلمه، وأبقى الباب موارباً، حيث تنتهي كتبه العجائبية الغريبة بعد سرقتها إلى أحد أصحاب الحانات في البلدة، الذي يجلس كل يوم عند العاشرة مساء ويقلب في الكتب ولا يفهم منها شيئاً ثم يحفظها في خزنة خفية، ولن يعرف أحد عن هذه الكتب إلا بعد وفاة صاحب الحانة، في نهاية حاول ويلز أن تكون مفتوحة على احتمالات لمستقبل.

الأولوية عند ويلز للقانون حتى لو على حساب العلم، أجرى المؤلف تجربته على حساب إنسان برىء قذف به في اختبار أكبر منه، ليحذرنا من مستقبل ربما يتكرر فيه نموذج جريفن، فمن يملك القوة منفرداً يستطيع أن يحول المجتمع غابة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"