مصر . . الأصل والصورة

05:44 صباحا
قراءة 4 دقائق

برع العرب عموماً والمصريون خصوصاً في الإعلام الداخلي وتوجيه الرأي العام المحلي من خلال عمليات الشحن بالوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة، بينما أخفق الجميع في مخاطبة الرأي العام الخارجي وتقديم الصورة الحقيقية للواقع الذي يدور، ولقد أثبتت الأحداث الأخيرة في مصر ومباريات الحشود في العاصمة والأقاليم أن الإعلام المصري الرسمي أخفق بامتياز في تقديم الصورة الصحيحة لدوائر الرأي العام أو حتى لدوائر صنع القرار في الخارج بينما تفوقت الماكينة الإعلامية لجماعة الإخوان المسلمين التي تروج لمسألة الانقلاب العسكري على الشرعية بديلاً لمفهوم الانتفاضة الشعبية من أجل تصحيح المسار الثوري الذي بدأت مسيرته في الخامس والعشرين من يناير ،2011 ولقد شهدنا كيف تكدس المراسلون الأجانب في منطقة رابعة العدوية لأن آلة الإعلام في ذلك الجانب تملك أدوات للتواصل وقنوات مفتوحة مع الرأي العام في الخارج، وليست هذه هي المرة الأولى التي نشعر فيها بضعف الإعلام الرسمي خارجياً بينما يتفوق غيرنا في هذا المجال بشكل ملحوظ، وما زلنا نتذكر نشاط الإعلام الإسرائيلي أثناء ثغرة الدفرسوار في حرب 1973 وكيف أنه نجح لدى بعض الدوائر الغربية في تحويل العبور ونصر أكتوبر إلى هزيمة للجيش المصري واحتلال جديد غرب القناة، ويكفي أن نعترف أننا لم نتمكن حتى اليوم من إعداد فيلم تسجيلي في إطار بناء درامي يمكن تصديره للرأي العام الخارجي لتصحيح الصورة عن تلك الحرب الباسلة والتضامن العربي فيها وذلك رغم كثرة الحديث في هذا الموضوع وتداوله في مناسبات مختلفة والوعود الرسمية التي تكررت في هذا الشأن . ويجب أن ندرك الآن أن الإعلام يقف إلى جانب الاقتصاد والقوة العسكرية في تحديد مقومات الدولة الحديثة ومكانتها بين أقرانها لذلك فإن ضعف الإعلام الخارجي هو نقيصةٌ نشعر بها في مناسبات مختلفة، لذلك نطرح المحاور الآتية:

أولاً: لقد أضحى الإعلام المعاصر واحدة من أهم أدوات صناعة قيمة الدولة ومكانة دورها، فهو إلى جانب العسكرية والاقتصاد يعتبر الآلية الفاعلة في تشكيل الصورة الذهنية عن داخل الدولة الحديثة وخارجها، ويكفي أن نتذكر أن نموذج ألمانيا النازية ونموذج مصر الناصرية مع الفارق الكبير بينهما شكلاً وموضوعاً قد اعتمدا على جهاز إعلامي قوي استطاع أن يصل إلى من يريد أن تصل إليهم رسالته القوية، فهذان النموذجان أحدهما عالمي والثاني إقليمي ومع ذلك كان الإعلام هو جهاز الدعاية والقوة الضاربة لهما، ولماذا نذهب بعيداً؟ إن قناة الجزيرة قد وضعت دولة قطر في مكان مختلف بتأثيرها القوي قبل أن تخرج عن حيادها وتتخذ مواقف غريبة كان من الأولى بها ألا تقع فيها .

ثانياً: لقد أدى التطور التقني في تكنولوجيا المعلومات إلى قفزة هائلة في دنيا الإعلام ووسائل الاتصال في ظل قرية كونية واحدة يصعب فيها حجب الأخبار أو تزييف الحقائق، وبذلك أصبح من المتعين على كل دولة أن يكون لها جهاز إعلامي عصري يتبع أحدث الوسائل وأدق التقنيات، واضعين في الاعتبار أن الإعلام لابد أن يستند إلى حقائق على الأرض وإلا تحوّل إلى عباراتٍ فجة وشعارات زاعقة تحرمه المصداقية ولا تسمح له بدوام التأثير، فالمطبخ السياسي هو الذي يصنع الخبر ويتولى الإعلام فقط تجسيده ووضعه على مائدة الرأي العام داخلياً وخارجياً، فلا يتصور أحد أن الإعلام شكل بلا مضمون أو طبل أجوف يعيش على نظرية الكم من دون نظرية الكيف .

ثالثاً: إن قدراً كبيراً من مشكلات السياسة الخارجية المصرية يرجع في كثيرٍ من مراحله إلى إخفاق الجهاز الإعلامي في تقديم الصورة الكاملة التي تعكس الأصل الحقيقي، وما زلنا نتذكر كلماتٍ لوزير الخارجية الراحل إسماعيل فهمي شدد فيها على عدم قدرة الإعلام المصري أحياناً على إبراز جوهر القضايا والتأثير في الأطراف الأخرى، أقول ذلك بمناسبة ما نتابعه حالياً على شاشات التلفزة وموجات الأثير وسطور الصحف، إذ تعكس في مجملها قدراً لا بأس به من المغالطة وعدم القدرة على استيعاب الواقع إمّا بسوء نية أو بحسن نية، وتكون النتيجة واحدة وهي حدوث ردود فعلٍ سلبية من قوى خارجية ورأي عام أصبح يرصد كل كبيرة وصغيرة خصوصاً في ظل فلسفة العولمة والانفتاح الإنساني المعاصر، لهذا فإننا نطلب بإلحاح التركيز على سلامة وصحة الخطاب السياسي الخارجي حتى يكون بحق ناقلاً أميناً ومؤثراً في سياسات الآخرين .

رابعاً: لقد قالوا قديماً لقد خسرنا قضية عادلة لأن المحامي فاشل وقال آخرون لقد كسبنا قضية مغلوطة لأننا اخترنا المحامي الماهر، وينطبق الأمر على الإعلام المعاصر، ويكفي هنا أن نتأمل سطوة النفوذ الصهيوني في العالم وكيف كانت ركيزته إعلامية بالدرجة الأولى بحيث تؤثر في عواطف الناس وتغير أفكارهم وتحقق من النتائج ما لم يخطر على ذهن سواهم . إن المهارة في صياغة خطابٍ موضوعي يتميز بالمصداقية هي عنصر أساس في وصول الرسالة الإعلامية بنفس القوة التي خرجت بها وليس من شكٍ في أن قدرة النظام السياسي لا تقف عند ترشيد علمية صنع القرار وحدها بل لابد أيضاً من الارتفاع بكفاءة الجهاز الإعلامي على نحوٍ يحقق أهداف الدولة القريبة وغاياتها البعيدة .

خامساً: إن مشكلة العرب والمصريين هي الفارق بين الأصل والصورة حيث تلعب في المسافة بينهما أجهزة الإعلام من الخصوم والأعداء بل وأحياناً الأصدقاء أيضاً، والملحوظ أخيراً هو ذلك الصراع المستميت بين أجهزة الإعلام من حيث سرعة الخبر ومصداقية المعلومة وأسلوب الخطاب الإعلامي المؤثر، فنحن أمام عالمٍ مختلف له قواعد جديدة وأصول لم تكن معروفة من قبل، لقد أصبح الإعلام علماً وفناً وصناعة فما أكثر الحقائق الرصينة التي أهدرها إعلامٌ ضعيف، وما أكثر الخواء الذي صنع منه الإعلام الخبيث شيئاً كبيراً، إنه عالم المفارقات والمؤامرات، إنه عالم الأقوياء!

. . إنني أريد أن أقول بوضوح إن مصر لم تتمكن بعد من تحقيق رسالة إعلامية خارجية ناجحة تخطف العقول وتؤثر في المشاعر وتنجح في حماية الأمن القومي وصيانة المصالح الوطنية العليا .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"